(أو آوي إلى ركن شديد)
(أو آوي إلى ركن شديد)
وقف لحظة الغروب لا ليودع الشمس ولكن ليستقبل الليل فهو ملاذه الوحيد للهروب من همومه,استقبل الليل مقطّب الوجه, لم تكن عادته في استقبال الضيوف كذلك فهو عربي أصيل ولكن كان به من الضيق والحزن ما لا يعلمه إلا الله. مرّت به فصول حياته ومر الفصل الأخير ولا عزاء, كان فصل تساقط الأوراق, فأخذ يسترجع شريط الذكريات وهو يستلهم:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا ***وعناهم من شأنه ما عنانا
عاد إلى البدايات عندما كان طفلاً صغيراً يلهو ويلعب لا يعرف الهم ولا الحزن , ابتسم عندما تذكر الطفولة ابتسامة أطفأتها الدموع,لم تكن لديه مسئولية إلا أن ينهي وقت اللعب بنوم وكان أحلى الخيارين ثمّ أتت الدراسة ولم تكن لتنغّص عليه لعبه ولهوه فقد كان حلماً أن يذهب للمدرسة.
تعلم ونشأ في صباه على الصدق والبراءة وحب الدين, بلغ مرحلة النضج وخلس أثواب الطفولة وكبرت أحلامه وأمانيه ولم يزده ذلك إلا جداً واجتهادا
وإذا كانت النفوس كباراً ***تعبت في مرادها الأجسام
لم يكن شبابه إلا طاقة تساعده على بلوغ أمنياته ولكن الأماني لا تنتهي.
تغرب في طلب العلم وهان في نفسه أمر الغربة في سبيل أهدافه السامية, تعرّف على شباب في مثل سنّه وفي نفس مستواه التعليمي ولكن لم تكن لهم مثل همّته وطموحه
وقد يتزيّا بالهوى غير أهله **** ويستصحب الإنسان من لا يلائمه
لم يكن يعلم عن أخلاقهم فقد كانوا رفقاء سوء, ورفيق السوء مثل البعوض لا تحس به إلا بعد اللسع, فبدأت رحلته مع المعصية,وكان رفاقه علامات في سماء المعصية وجند بلا رتب في جيش إبليس.
كان يقوم من معصية فيقع في أخرى ولا عجب فالذنب يجر الذنب
إن في الموج للغريق عذرا **** واضحا أن يفوته تعداده
وكان للمعاصي ألما في النفس وضرائب لم يحسب لها حسابا, فقد ضاقت عليه الدنيا.."ومن يعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا".
وعاد من شريط الذكريات فوجد نفسه وحيدا في هذا الليل البهيم فزادت عليه ظلمة الليل ظلمة نفسه وأحس بالضيق بعد أن تخلى عنه البشر فقصد الباب الذي لا يغلق وآوى إلى الركن الشديد ورفع يديه إلى السماء وأخذ يناجي ربه :
"اللهم إني أسألك بأسمائك العظمى وصفاتك العلى ألا تدعني لنفسي طرفة عين, فإني-وأنت اعلم بي- أضعف من أن أقاوم نفسي الأمارة بالسوء,
سألت الناس تفريج همّي فما زادوني إلا همّا إلى همّي فخلصت منهم لمناجاتك ربي,
اللهم اغفر لي سؤالي الناس فهذا جهل مني ولكني لا أجهل عفوك وفضلك,فاعف عمّا بدر مني وتفضّل عليّ بفيض رحمتك,
اللهم إني لم أجد من المعاصي سوى الهمّ فلا تزدني إليه العذاب, فأنت أكرم من أن تجمع عليّ عذابين وأنا الضعيف في ملكوتك الضخم"
__________________
الأكفان بلا جيوب