هــذا يــوم عــرفــة ... فــمــوتــوا بـغـيــظــكــم! (1)
إنها الفرصة العظيمة
والفضل الكبير
والعطاء الواسع من الرب الرحيم الذي قال ـ عز وجل ـ
{ وتلك الأيام نداولها بين الناس }
إنها من دلائل قدرته ـ سبحانه ـ على أن
{ يقلب الليل والنهار }
بل و { جعل الليل والنهار خلفة }
فهذا يجيء والآخر يذهب
{ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل }
كل ذلك ليعتبر بهما كل من له بصيرة , ويتذكر من أراد
{ أن يذكر أو أراد شكورا }
{ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شي وإليه ترجعون }
تأمل أخي المسلم: كيف داول الله الأيام وقلب الليل والنهار حتى جاء يوم عرفة
وبهذا لعلك تذكر سؤال النبي ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ لأصحابه إذ قال لهم:
أي يوم هذا؟! ... إنه يوم عرفه ...
هذا اليوم لم يمر على الشيطان وأعوانه وذريته وإخوانه من شياطين الإنس لم
يمر عليهم في السنة يوم مثله , فما هناك يوم الشيطان فيه:
ادحر .. ولا أصفر .. ولا أحقر .. ولا أذل منه .. في هذا اليوم
لما يرى من نزول الرحمات وتجاوز الله عن الذنوب والسيئات
ولقد جاءت الساعة التي نقول فيها لشياطين الإنس والجن
{ قل موتوا بغيظكم }
أي وربي
{ موتوا بغيظكم }
فأن الإسلام الذي هو سبب غيظكم لا يزداد باعتصام أهله به إلا عزة وقوة وانتشارا
{ موتوا بغيظكم }
فهاهم المسلمون يصعدون من بعد فجر عرفات على صعيد عرفات
يجتمعون وقد نزل الله المولى ـ عز وجل ـ نزولا يليق بجلاله إلى السماء
الدنيا يباه بعباده الملائكة فيقول لهم
" انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت
لهم , فتقول الملائكة فلان مرهق: أي كثير المعاصي , فيقول: قد غفرت لهم "
وفي رواية
" أشهدكم يا عبادي أني قد غفرت لمحسنهم وتجاوزت عن مسيئهم "
هذه بشرى لمن أرهقته الذنوب والمعاصي
هذه بشرى لمن خفت موازينه من الحسنات وأثقلتها السيئات
فموتوا بغيظكم يا شياطين الإنس والجن
موتوا بغيظكم يا من لا تحبون التوبة لعباد الله
موتوا بغيظكم يا من لا يعجبكم استقامة المستقيمين
فهذا يوم عرفه أفضل الايام , يوم نزلت فيه آية الإكمال والإتمام والرضى
{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لك الإسلام دينا }
فموتوا بغيظكم يا مدعي الإصلاح والتطوير والحضارة
تدعونها لفسدوا وتصدوا وتمكروا
تدعونها لتبغونها عوجا
تدعونها لتزرعوا من خلالها الشبهات وتزينوا الشهوات
يا أخي المسلم:
تذكر ... كلما جاء يوم عرفات تتذكر ... آية النعمة والرضى ، تذكر ... يوم نزلت
عشية الجمعة بعرفه ، آية إكمال الدين وإتمامه ، فما عاد فيه زيادة لمستزيد
أبداً , وآية إتمام النعمة الكبرى على المؤمنين بهذا الدين الكامل فلا نقص فيه
أبدا , وآية الرضا لهم بالإسلام دينا فلا يسخط على أحد رضيه قولا وعملا أبدا ،
فموتوا بغيظكم يا من تبغون غير دين الله
{ وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها }
موتوا بغيظكم يا من حرمتم الإستسلام الحقيقي لهذا الدين والعمل به والاستقامة عليه
فقد ثبت عند مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال
" ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفه "
قال العلماء ( هذا العتق والله ـ أعلم ـ يكون للأحياء والأموات وقد شملهم العفو برحمة
الله التي وسعت كل شي , ثم بدعاء الحجاج لهم حيث وإن كل حاج لا بد وأن يدعو
لوالديه وأقربائه وإخوانه المؤمنين ) بدليل ما روى عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال
" يغفر الله للحاج ولمن استغفر له الحاج " رواه ابن خزيمة في صحيحه
ومن فضل الله الواسع أنه ـ سبحانه ـ لم يحرم الذي لم يحج من فضل يوم عرفه
فقد ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال
" احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعد " رواة مسلم
فيا غبن المحرومين الغافلين الذين لم يصوموا يوم عرفة وعندهم القدرة والاستطاعة
ما أحوجنا ـ أخي المسلم ـ إن لم نقف بعرفات إلى أن نتذكر ذكريات كانت بعرفات
ذكريات عزيزة على قلوب المؤمنين وما أكثر الذكريات في يوم عرفات؟
ذكريات نقف معها حتى يرتبط المسلم بأعظم رباط , وينبعث في نفسه حقيقة
الإسلام وما يريده منه , ويتبصر بهذه الذكريات:
لمكر الماكرين
وظلم الظالمين
وكذب الكاذبين
وبغي الباغين
وإفساد المفسدين
ودجل الدجالين
{ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين }
أخي المسلم: إن من أبرز ما تهيج في نفسي وما بعثه هذا اليوم من ذكريات خالدة تلك
الخطبة العصماء , خطبة نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع
تلك الخطبة التي وجهها لمن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبحمد نبيا في مشارق الأرض
ومغاربها إلى يوم المعاد , لقد ألقاها ـ عليه الصلاة والسلام ـ في دقائق محدودة
بكلمات معدودة , إنها وربي لأهم من بيانات وقرارات وأوامر تستغرق الصفحات والساعات
ولا تعجب من هذا فملقيها وقائلها هو من؟
إنه من أوتي جوامع الكلم
أفصح من نطق من العباد بأبي هو و أمي , ألقاها وسط تلك الجموع وقد احتشدوا
حوله في أعظم موقف ، ينظر إليهم ويسمعهم
كلمات مودع
ووصية محب ومشفق
وكأني به ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو ينظر إليهم يتذكر ما عرفه منهم بقيام الليل
وصيام النهار , وبذل الأموال والأنفس في سبيل نصرة هذا الدين
يتذكر يوم كانوا معه في بدر وأحد
ويوم أن حوصروا معه في الخندق
ويوم أن مضوا معه في ساعة العسرة إلى تبوك
وغيرها كثير وكثير ، وقد قضى نحبه منهم من قضى ، وسعد من سعد بالوقوف معه على صعيد عرفات
يجتمعون أمامه ويسيرون معه على الطريق
فلم يتخلف منهم أحد
ولم ينكص منهم أحد
ولم يمل ويكسل منهم أحد سائرين من سنين مهاجرين من مكة ، قادمين من المدينة
يقفون أمامه ومن حوله ، ينظرون إلى نبيهم وقائدهم وحبيبهم , ولم يعلموا أنه ـ عليه
الصلاة والسلام ـ ينظر إليهم النظرات الأخيرة ، ويخطوا بينهم ويكلمهم بالكلمات والخطوات
الأخيرة , يقول لهم ويناديهم فيقول: قولة المودع ـ يا أيها الناس ـ
" اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا "
إن هذا النداء وتلك الكلمات لتؤكد أن ورائها كلام عظيم
.. إي وربي ..
لقد كان ورائها كلام عظيم , كلمات قالها ليرسي بها قواعد الملة , ويهدم مبادئ الجاهلية
وذلك بعد أن كمل الدين , واستقام الشرع , وتمت النعمة ، ورضي الله هذا الدين للإنسانية دينا
فبدأ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحقوق العباد بين بعضهم البعض , فقال
" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام " هذه حقوق الإنسان
ضمن الإسلام من خلالها للنفس الإنسانية دمها ومالها وعرضها
جاء الإسلام فقرر المساواة بين المسلمين في الدماء ولم يجعل لدم أحد فضلا على
دم الآخر , فالشريف و الوضيع والحاكم والمحكوم في ذلك سواء
قال ابن قدامه ـ رحمه الله ـ ( ويجري القصاص بين الولاة والعمال ، وبين رعيتهم لعموم
الآيات والأخبار , ولأن المؤمنين تتكافأ دمائهم , ولا نعلم في هذا خلافا )
أخي في الله: ها هي أمتنا المسلمة تمر في سنواتها بأيام عصيبة
وظروف قاسية مريرة , حروب طاحنة , وصراعات مدمرة , وسهام موجعة , وضربات
قاصمة من هنا وهناك , ومكر وخيانة من المنافقين والعلمانيين ، كل ذلك من أجل:
مصالح شخصية
وأمور خلافية هامشية
ورغبة في الصد عن سبيل الله
وحب لبث الشبهات وتزييين الشهوات
فالله أكبر! ما أعظم المعاناة التي يعيشها إخواننا المسلمون في كل أراضي الإسلام
ولا يعاني حقيقة إلا أهل السنة
تراهم ضحايا بلا ذنب يوجب قتلهم
ولا جرم يوجب انتهاك أعراضهم
ولا عمل يوجب إخراجهم من ديارهم إلا أنهم قالوا ربنا الله
مآس وكبت وظلم وبخس يذوقونها يوميا
ومقدرات وممتلكات لا تحصى ، ذهبت نهبا وظلما.
لــــو كـــانـت ســهــامــا واحـدا لا تــقــيــتــه ........ ولــكــنــه ســهــم وثـــان وثــالــث
والأنكى من ذلك والأشد على النفوس أن يكون غالب هذه السهام التي توجه للمسلمين
في بلادهم ومجتمعاتهم أن أغلبها إذا ما كانت كلها على أيدي بني جلدتنا ومن يتكلمون بألسنتنا
وممن يعيشون باسم الإسلام
وينطلقون باسم الإسلام
ويطالبون بحقوق الإسلام
أخي الحبيب: إن كيد الأعداء لا يستغرب ولا يستنكر ، فهم قوم
{ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة }
ولن يأتي يوم يرضى فيه اليهود والنصارى وأعوانهم عن أهل السنة ، وتأمل في قوله
{ إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم }
يودون أن تكفروا كما كفروا { فتكونون سواء }
هذا لا يستغرب ولا يستنكر , لكن الغريب حقا أن ترى من يتولى سفك الدماء وهم شباب
ينتسبون إلينا ممن يدعون الإصلاح المزعوم , ونصرة المظلوم , وهم أبعد الناس عن هذا كله
والعاقل يعيش في هذا الزمان فيرى العجيب العجاب
والغريب: يتساءل ويقول:
أمن المعقول حقا أن يوجد في صفوف لمسلمين من يقوض مسيرتهم أو يهدم بناءهم؟
أمن المعقول حقا أن يكون بين المسلمين من يجعل من نفسه ـ متطوعا ـ أن يكون معول هدم وإفساد؟
أمن الممكن حقا أن نصل إلى حال نعاني فيها من بني ملتنا ما يفوق معاناتنا من أعدائنا الواضحين!
إن قلنا .. مستحيل ولا يمكن أن يكون هذا , فالواقع للعاقل الناظر بمنظار أهل السنة والجماعة يقول:
صدق ـ الحبيب ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ وهو يقول
" إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا "
وضع قوله كثيرا بين قوسين [ كثيرا ] وكلما قرأت أو نظرت أو سمعت فتذكرها ، لترى حقيقتها
وصدقها في كثير ضل بهم الفكر , وزلت بهم الأهواء ، وأعجبوا بسبل الآخرين فاتبعوها حتى
تفرقت بهم عن سبيل الله , ومثل هؤلاء لا يتحقق معهم أمن ولا أمان ، ولا تستمر معهم
مصالح البلاد والعباد ، ولا تسلم منهم العقول والأفكار ، فكيف تعصم منهم الدماء والأموال والأعراض!!
إنهم لا نفع فيهم لأنفسهم ، ولا لذويهم ولا لمجتمعهم , شقوا عصى الطاعة , وفارقوا الجماعة
أفيرجى مع مثل هؤلاء , جمع الكلمة ووحدة الصف ، وسير الدعوة ، وحفظ حقوق والدعاة والعلماء؟
إنه من الواجب علينا في مثل هذه الفتن أن نزرع في قلوبنا وقلوب أبنائنا وبناتنا ونسائنا ومن لنا
علاقة به قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " أن دماءكم ..."
أستودعك الله .. ولعله يكون للحديث بقية .. إن شاء الله.
14-11-2010, 07:15 AM
تعليمات المشاركة
المواضيع المتشابهه
العرض العادي
