( رؤية مفكري الإسلام في القيم الأخلاقية )
المحمود الله جل جلاله ، والمصلى عليه محمد وآله ، والمدعو له الإسلام ورجاله... وبعــد :
إن التصور الإسلامي للقيم الأخلاقية " منهج حياة متكامل يمارس الإنسان من خلاله جميع القيم الروحية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والجمالية وغيرها .. كل ذلك في إطار من التناسق والتكامل يضمن للإنسان سعادته ويحقق للمجتمع تقدمه وتماسكه " .
وإذا نظرنا إلى القيم أو القيم الأخلاقية عند بعض الاتجاهات الإسلامية نجد أن بعض المفكرين يرون " أن الأخلاق علم معياري يهتم بوضع الأسس النظرية التي ينبغي أن يصدر عنها الفاعل العاقل حتى يكتسب فعله قيمة أخلاقية . ولعل هذا قد يوضح لنا مفهوم القيمة الخلقية لدى هؤلاء فإن العقل ليس بذي قيمة أخلاقية في نفسه وإن كان حسناً ما لم تقترن به النية الحسنة . لأن قصد الفاعل ونيته من فعله هما مصدر قيمة العقل أخلاقياً ، فالقيمة ترتبط بالشخص الفاعل ونيته من فعله وعلى أساس هذه النية تتضح المسؤولية الأخلاقية ويكون الشعور بالندم على الخطيئة " .
غير أن النظرة المتأنية ترى أن القيم الأخلاقية ترجع أساساً إلى العالم الإلهي ، عالم القيم السابق على الوجود الشخصي ، ومن هذا العالم يتنفس العقل كل معاني الحق والخير والجمال ، وأول خطيئة وقعت في عالمنا الأرضي كانت بين ولدي آدم قابيل وهابيل وحكى القرآن الكريم قصتهما وبين أن قابيل قد ندم على قتل أخيه الذي قال له كما يقص القـرآن الكريم : لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين
وندم قابيل على قتل أخيه لم يكن إلا لمخالفة فعله للقانون الأخلاقي الذي فطر عليه . فلم يكن هو خالق قيمة فعله التي أورثته الندم كما أنه لم تسبق معرفته بقيمة هذا الفعل من مجتمعه ولم يكن موقفه إزاءها إلا الاعتراف بها والندم عليها ، ومما يؤكد هذا لدى المعتزلة أنهم يجعلون دور العقل في معرفة الحسن والقبيح هو الكف عن هذه المعاني فقط ، وذلك بأن يكون الفعل قد جاء موافقاً لما طبع عليه العقل من معاني الحق والخير فيكون ذا قيمة أخلاقية أو يكون الفعل لما فطر عليه العقل من هذه المعاني الأخلاقية فلا تصبح له قيمة في القانون الأخلاقي .
وإذ نظرنا إلى المفكرين المسلمين الأوائل نجد أن ابن مسكويه يعرف الأخلاق بأنها " حال النفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية ، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين : منها ما يكون طبيعياً من أصل المزاج ، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب ، ويهيج من أقل سبب ، وكالإنسان الذي يجن من أيسر شيء كالذي يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه ، أو يرتاع من خبر يسمعه ، وكالذي يضحك ضحكاً مفرطاً من أدنى شيء يعجبه ، وكالذي يغتم ويحزن من أيسر شيء يناله ومنها ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب ، وربما مبدؤه الفكر ، ثم يستمر عليه أولاً فأول حتى يصير ملكة وخلقاً .
أما الغزالي فيعرف الخلق بأنه " عبارة عن هيئة في النفس راسخة ، عنها تصدر الأفعال بسهول ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية ، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجملية المحمودة عقلاً وشرعاً ، سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً ، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي مصدر خلقاً سيئاً .
أما ابن خلـدون فينطلـق في فهم القضايا الأخلاقية من النص الديني ، فقد ركب الله سبحانه وتعالى في طبائع البشـر الخير والشـر ففي القـرآن الكريم وهديناه النجدين و فألهمها فجورها وتقواها ويرى ابن خلدون أن الشر أقرب الخلال إلى الإنسان إذا لم يهذب أخلاقه بالاقتداء بالدين .
وعلى العكس تماماً لما ذهب مكيافلي فإن ابن خلدون يرى أن طبيعة الإنسان الأصلية هي الخير ، وللاحتفاظ بالملك على الإنسان أن لا يتخلى عن خصائص فطرته الأولى هذه وأن يترك طبيعته الخيرة ، وخلال الخير هي التي تناسب السياسة والملك ، إذا الخير هو المناسب للسياسة .
ولن نجد عند ابن خلدون إنساناً حراً يتصرف في مصيره وإنما سنجد إنساناً تخلقه الظروف الموضوعية التي يضطرب فيها ، كما نجد أخلاقه تتأثر بهذه الظروف و لايؤثر فيها .
إن الإنسان الخلدوني لا يختلف عن الشجرة والنبات ، إنه جزء من الكون فإذا أردنا أن نغيره يجب أن نغير محيطه ، أما إهمال ظروفه والعناية به منقطعاً عن ظروفه فهو عبث لا طائل وراءه .
إن الروح الأخلاقية لم تأتنا ولن تأتينا من ضمائرنا إنما هي انعكاس في نفوسنا لما يجري خارج نفوسنا . إننا كم قال نبينا العربي نولد على الفطرة قابلين للخير والشر وكل من الخير والشر ليس وليد نفوسنا بقدر ما هو وليد ما يحيط بنا من شروط موضوعية خارج نفوسنا .
والقيم هي " مجموعة الأخلاق التي تصنع نسيج الشخصية الإسلامية وتجعلها متكاملة قادرة على التفاعل الحي مع المجتمع ، وعلى التوافق مع أعضائه , وعلى العمل من أجل النفس والأسرة والعقيدة "
وتعرف القيمة بأنها " مجموعة المعايير والفضائل التي جاء بها الإسلام ، ثم أصبحت محل اعتقاد واعتزازا لدى الإنسان عن اقتناع واختيار ، ثم صارت موجهات لسلوكه ، ومرجعاً لأحكامه في كل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال تنظم علاقته بالله وبالكون ، والإنسانية جمعاء "
ويعرف محمد دراز الخلق بقوله : " الخلق هو قوة راسخة في الإرادة تنزع بها إلى اختيار ما هو خير وصـلاح إن كان الخلـق حميداً أو إلى اختيار ما هو شـر وجور إن كان الخلق ذميماً .
إن القيمة في الإسلام هي بمثابة مجموعة من الدعائم الأخلاقية المستمدة من الإسلام والتي توجه المسلم نحو الطيبـات التي تحل له وتنهيه عن الخبائث المحرمة عليه بما يضمن توجهاً مستقيماً لسلوكه وحركته .
والقيمة تعني " ما تتضمنه فطرة الإنسان من سلامة واستقامة وثبات في الإقرار بربوبية الخالق سبحانه وتعالى ووحدانيته ، وهذه القيمة هي التي تبقى وقت ابتلاء الإنسان حيث توجه سلوكه وفكره مباشرة إلى مصدر ( صاحب ) هذه القيمة وهو الله سبحانه وتعالى يدل ذلك على التجاء الإنسان بفطرته إلى الله تعالى والاعتصام به وقت الشدة والفزع
ويبين عبد الرحيم بكرة الأسس العامة للقيم الأخلاقية من المنظور الإسلامي في:
1- تكامل النظرة وشمولها إلى كل من الكون والإنسان والحياة من حيث النشأة والمصير ، فالإنسان بحكم خلافته في هذه الأرض يجب أن يتصف ببعض صفات من استخلفه ، ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى وعن طريق هذه الصفات والقيم من علم ، وحق ، وعدل ، وصدق ، وقوة ... الخ تعمر الأرض وتتقدم الحياة .
2- أنـها راعت فطرته وشوقه إلى التعرف إلى خالقه وسعيه الدائم نحو الكمال.
3- أنـها احترمت آدميته ، وكرمت إنسانيته فجعلته مسئولاً عن عمله مسئولية فردية .
4- أنـها لم تحجر على عقله ، أو على تفكيره فيما ينفعه وينفع بني جنسه بل حثته على فعل ذلك كله
5- أنـها أطلقت ملكاته ، وراعت طموحه ، ودعته إلى تغيير أسلوب حياته ، وتطوير وسائل معيشته وحثته على الإيجابية والفعالية في صنع الحياة .
نستخلص من هذا كله أن الإنسان إذا تربى على القيم الأخلاقية خرج جيلاً صالحاً مؤمناً بالوسطية ليس إرهابياً ولا تجره هرطقة هذا وذاك ضد وطنه وأمته لأنه إذا نمت الرذائل في النفس وفشا ضررها وتفاقم خطرها ، انسلخ المرء من دينه كما ينسلخ العريان من ثيابه ، وأصبح ادعاؤه لولائه لدينه ووطنه زوراً فما قيمة دين بلا خلق ؟ وما قيمة دين بلا وطنية لوطنه ، أو ما معنى الإفساد مع الانتساب لله وما فائدة الآيات والأحاديث والأقوال التي توضح غاية التربية الإسلامية الوسطية وأهدافها ، لذلك لا بد من تدريس الأخلاق نظرياً وممارستها واقعياً في ظل حبه وولائه لوطنه ولولاة أمره وعدم التهاون فيه ومراقبة السلوك الحسن والخلق الحميد داخل المجتمع وجميع مناشط الحياة وعسى شبابنا أن يتبوأ مبدء الوسطية دون التعصب وأخذ أراء فقهائهم وعلمائهم وولاة أمورهم وأن لا يدسوا في أفكارهم ويروجون أفكاراً دخيلة عليهم تشوش الأفهام وتضطرب الأفكار وأن تكون حميتهم لدينهم ووطنهم والسمع والطاعة لولاة أمورهم لأن هذا هو أساس البذرة الحقيقية من القيمة الخلقية في قلب المواطن .. ومن كتابتي .. إلى كتابته !!؟
وقفـة :
إذا رَضيت عَنِّي كِرَامُ عَشِيرَتي
فَلاَ زَاَلَ غَضَبْاناً عَليَّ لِئامٌها !
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
المراجع
القيم الأخلاقية لدى طلبة جامعة طنطا ، عبد الرحيم الرفاعي بكرة ، ص (165-166) .
في علم الأخلاق قضايا ونصوص ، محمد السيد الجليند : – مطبعة التقدم – المبيرة – 1978 ، ص ( 60 ) .
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ، ابن مسكويه - مكتبة الحياء – بيروت –بدون تاريخ ، ص (51) . إحياء علوم ( 3/53 ) الغزالي ، طبعة دار الندوة الجديدة – بيروت- بدون تاريخ .
في الأخلاق النظرة والتطبيقية ، أحمد خواجة ، دارالغصون – بيروت – لبنان – 1985 ، ص (14) .
الفكر الأخـلاقي عند ابن خـلدون عبد الباسط شريط ، ط3 – الدار العربة للكتاب – تونـس – ليبيا – 1984 ، ص (169) .
المدخل إلى القيم الإسلامية ، جابر قيمحة ، ص (20 ).
دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية ، محمد عبد الله دراز ، دار القلم – الكويت – 1993 ، ص 33 .
مفهوم القيمة بين الاقتصاد الإسلامي ولوضعي ، محمد إحسان طالب ، دراسة منشورة بمجلة الأمة ، عدد ( 41 )قطر 1984 ، ص ( 3 ) .
المسئولية والجزاء في القرآن الكريم محمد إبراهيم الشافعي ، بدون ناشر – 1982 ، ص (10-191) .