ايه الخطيب المبارك اليك سلسة من الخطب


مجلس الإسلام والحياة يهتم هذا القسم بجميع مايتعلق بديننا الحنيف

إضافة رد
قديم 30-09-2010, 07:24 AM
  #1
المناضل السليماني
مشرف
المجلس الاسلامي
 الصورة الرمزية المناضل السليماني
تاريخ التسجيل: Oct 2006
المشاركات: 3,909
المناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond repute
افتراضي رد : ايه الخطيب المبارك اليك سلسة من الخطب

هذه الخطبة عن شيخ الاسلام ابو بكر الصديق رضي الله عنه وارضاه


الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا يسأل في المصيبة إلا هو، ولا يرجو المكروبون المضطرون المظلومون سواه، أحمده سبحانه، وأسأله أن يوفقنا إلى حمده حمد العارفين، وشكره شكر الصالحين، والرضا بقضائه رضا الأوابين المنيبين. وأصلي وأسلم صلاة وسلاما دائمين متلازمين على سيد الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين، إمام المتقين وحبيب رب العالمين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل
عباد الله حديثنا في هذه الخطبة عن اعظم رجل عرفته الدنيا بعد الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم ورضي الله عنه وأرضاه الذي نال منه المبغضون اعداء الاسلام مانالوا لتشويه سمعته والتي هي والله انقى من مطر السماء سنعرفه بعد قليل

اخوة الاسلام إن التاريخ الإنساني لم يشهد رجالاً اشتدت بالله عزائمهم وصدقت لله نواياهم ولرضاه نذروا حياتهم، إنه لم يشهد كما شهد الرجال الأبطال صَحبَ رسول الله رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

نعم، فتحوا الفتوح في بضع سنين، وشادوا بالقرآن وكلماته نظاما جديدًا وعالمًا فريدًا، راع روعته الدنيا كلها من أقصاها إلى أدناها، كل هذا يدعونا دعوة مُلحة إلى أن نغوص في أعماق حياة أولئك الرجال، ونتمثل سيرهم وحياتهم التي صاغ الدين فضائلها وهذَّب بالقرآن سجاياها.

اقرؤوا التاريـخ إذ فيه العبر ضلّ قومٌ ليس يدرون الخبر

سائلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسّسنا بناءً أحمديــا

وإن أمر هذه الأمة ـ يا رعاكم الله ـ لن يصلح إلا بما صلح به أولها، ما أحوجنا إلى دراسة السير والتاريخ لسلفنا الصالح، لنقدم رجالاته ونساءه للجيل الناشئ وللأمة كلها لتعلم تاريخها، ومن هم آباؤها وأجدادها، وعلى أكتاف من قام تاريخها ومجدها.

ما أحوجنا إلى ذلك في زمن قلت فيه القدوات التي تحتذى، بل لمَّعت أبواق الشرّ أعدادًا من المغنين والمغنيات والتافهين والتافهات، ليكونوا قدوات للشباب الصاعد والجيل الواعد.

أيها الإخوة، إننا اليوم أمام سيرة رجلٍ من هؤلاء الرجال، رجل حقٌّ للأمة أن تفاخر بسيرته الأمم، وأن تبز بحياته سائر متّبعي الملل، رجلٌ انتصر الإسلام بإسلامه، وأعز الله الدين بإيمانه، كاد عمود الدين أن يسقط فأقامه، يوم أن علّق قلبه بالله وجعله أمامه، إنه رجلٌ عظيم القدر، رفيع المنزلة، لكَمْ وكم جعل روحه فداء لرسول الله قولاً وفعلاً، إنه من نصر الرسول يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدّقه يوم كذبه الناس، إنه عبد الله بن عثمان بن عامر أفضل الصحابة، إنه أبو بكر الصديق ، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير من أبي بكر، إنه أوّل من آمن من الرجال على الصحيح، إنه من لو وضع إيمان الأمة في كفة وإيمان أبي بكر في كفة لرجحت كفة أبي بكر، إنه الورِع الحييّ الحازم الرحيم، التاجر الكريم، لم يؤثر عنه أنه شرب خمرًا قط، ولم يؤثر عنه أنه سجد لصنم قط، ولم يؤثر عنه كذبٌ قط، دُعي إلى الإسلام فما كبا ولا نبا ولا تردد، وإنما بادر وما تلبّث ولا تلعثم، هو الصاحب في الهجرة والغار، ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40]، وهو العتيق من النار، كلّ باب يغلق إلا بابه، يعلنها من على المنبر خطيبًا بها: ((إن من أمَنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقى بابٌ في المسجد إلا باب أبي بكر))، مكافأته يوم القيامة يقولها : ((ما لأحد عندنا يدٌ إلا وكافيناه بها ما خلا أبا بكر، فإن له يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة)).

يقدم أبو بكر يوم القيامة وفي ميزان حسناته ستة من العشرة المبشرين بالجنة قد أسلموا على يديه.

يقدم أبو بكر يوم القيامة وفي كفة درجاته عشرون صحابيًا أعتقهم من ربقة العبودية بأربعين ألف دينار هي لله وفي الله.

يقدم الجمع يوم القيامة أبو بكر فيدعى من أبواب الجنة كلها، كما أثبت له ذلك رسول الله كما في الصحيحين.

عُذرًا رحمنى الله وإياكم، فإني أقف عاجزًا عن أن أوفيه حقه، أو أن أتكلم بفضائله التي طفحت بها كتب السنة.

عُذرًا فأنا أمام بحرٍ لا يدرك غوره، وكنزٍ لا تنفد دُرره، ولكنها مواقف ودُرر وصورٌ ذات عبر، نسلط الضوء عليها في حياة صديق الأمة، فيها الذكرى لمن تذكر والعبرة لمن اعتبر.

الموقف الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اجتمع أصحاب النبي وكانوا قرابة تسع وثلاثين رجلاً ألحّ أبو بكر على رسول الله في الظهور وعدم الاختفاء، فقال : ((يا أبا بكر إنا قليل))، فلم يزل أبو بكر يلحّ حتى وافقه ، وكان رسول الله والمسلمون تفرقوا في نواحي المسجد، وقام أبو بكر خطيبًا في الناس، فكان أول خطيب دعا إلى الله ورسوله، فثار عليه المشركون، وثاروا على المسلمين معه، فضربوا أبا بكر ضربًا شديدًا، حتى أن عتبة دنا منه وجعل يضرب وجهه بنعلين مخصوفتين، ثم نزوا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه ، حتى جاء بنو تيم قوم أبي بكر وأجلوا عنه المشركين، ويحمل رضي الله عنه مغمى عليه إلى بيت أهله وقد سالت دماؤه، واشتكت أعضاؤه، ولم يفق من غشيته إلا آخر النهار، وأمه عند رأسه تبكي بيدها الطعام والماء، وتفتح عينا أبي بكر وهو يرى أمه وجراحه وآلامه، فأول ما قال: أماه ما فعل رسول الله ؟ فتغضب أمّه: والله ما أوقعك فيما أنت فيه إلا صاحبك، ما لي علم به، فيقول: أماه، اسألي لي عن خبره، فأرسلت إلى أم جميل فاطمة بنت الخطاب، فقدمت وبشرته بأنه سالم بحمد الله، فأقبلت عندها أمه بطعامها وشرابها عله يشرب أو يأكل، فقال: يا أماه، لله علي أن لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى آتي رسول الله وأراه.

يا لله، أيُّ حبٍ هذا؟! هل سمع التاريخ مثله؟! فلتر الأمة كلَّها كيف الإيمان العظيم والحب الكبير لرسول الله ، ويحمل أبو بكر رجلاه تخطّ في الأرض إلى أن يدخل على النبي ، فما أن يراه رسول الله ويرى جراحه ودماءه إلا وينكبُّ عليه ويقبله، فينكب عليه المسلمون يقبلونه.

نُلام على محبتكم ويكفــي لنا شرفًا نلامُ وما علينا

إذا اشتبهت دموعٌ في خـدودٍ تبين من بكى ممن تباكى

فماذا يقول عندها أبو بكر لحبيبه وصفيه ؟ يقول له: بأبي أنت وأمي، ليس بي من بأس إلا ما ناله الفاسق من وجهي يا رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، هذه أمي برّة بولدها وأنت مبارك فادع الله لها وادعها إلى الله أن يستنقذها من النار، فدعا لها ودعاها، فما أن رأت ذلك الحب وذاك المشهد إلا أن قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمدٌ رسول الله.

الله أكبر، همه الدعوة، همه هداية الناس، يريدُ برها، وأعظم البر أن يدعوها لدين الله، إنه أبو بكر لطالما اقترب المشركون من رسول الله يريدون أذيته فما يقف أمامهم إلا أبو بكر يدافع ويناضل عنه، إنها الشجاعة والبطولة، يعترف بها علي بن أبي طالب إذ قال يومًا: أخبروني بأشجع الناس، قالوا: أنت، قال: أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكنه أبو بكر ، لقد رأيت رسول الله وقريش تشده وتجره، يقول علي: والله، ما دنا منا أحد إلا أبا بكر يجاهدهم ويقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، ثم رفع علي عنه بردة كانت عليه وبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال علي: والله، لساعة من أبي بكر خير منه، ذلك رجل يكتم إيمانه وهذا يعلن إيمانه. رواه البزار وأصل القصة في البخاري.

الموقف الثاني: من الذي له الشأن الأعلى والقدح المعلى في هجرة رسول الله إلا أبا بكر، يعرض الرسول الهجرة فيبكي فرحًا، يا لله أيبكى لأنه سيسير في موكب مهيب؟! لا وربي، بل موكب مطارد مهدر دمه، ولكنها الصحبة والمحبة، يدخل الغار قبله ويمشي عن يمينه وشماله، فداءٌ وتضحية، وإقدامٌ بلا إحجام، فاللهم ارض عنه وجازه عن الإسلام خير الجزاء، واحشرنا معه، وأقر أعيننا برؤياه في جنات النعيم.

أقول ما تسمعون...




الخطبة الثانية


الحمد لله رفع قدر أولي الأقدار، وأشكره على فضله المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القرار.

أما بعد: الموقف الثالث: جاء في صحيح البخاري عن أبي الدرداء قال: كنت جالسًا عند النبي إذ أقبل أبو بكرٍ آخذًا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي : ((أما صاحبكم فقد غامر))، فسلَّم وقال: يا رسول الله، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى عليَّ، فأقبلت إليك، فقال: ((يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثًا))، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثمّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى النبي فجعل وجه النبي يتمعَّر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله, والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي : ((إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!)) مرتين، فما أوذي بعدها.

يا لله، إنه درسٌ عظيم في العفو والتسامح، إنه درس في صفاء القلوب، إنه درس في عظم منزلة الصديق عند رسول الله، وفي الحديث فوائد لمن استفاد، وذكرى لمن تذكر.

الوقفة الرابعة: في يوم عسير من أيام المسلمين، كادت فيه قاعدة الإسلام أن تموج، لكن رجل المواقف الصديق لها، ذاك يوم أن توفي رسول الله ، وهاج الناس وماجوا وتضاربت الأقوال، وأغلق باب النبي فلا يفتح حتى يأتي أبو بكر، ويأتي والناس ينتظرون، ويتيقن الخبر، ثم يخرج والعبرة تخالج حلقه، والدمعة بعدما رقأت من عينه، لكن يخرج ليقول كلمات الحق وإن كانت مُرّة، وإن كانت في أحب الناس إليه، لكنه دين الله ورضاه فوق كل الناس، ويصدع: (من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، ويعز الله الدين وينصره ويثبته بأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.

الموقف الخامس: وبعد وفاة رسول الله يأمر أبو بكر الصديق بإنفاذ جيش أسامة الذي عقد لواءه رسول الله في آخر حياته، وأمره أن يتجه إلى الشام لحرب الروم، فيأتيه الصحابة يراجعونه في ذلك لما رأوا ردة العرب، فيجيب أبو بكر بحزم وثبات: والله، لو علمت أن السباع تجرّ برجلي إنه لم أرده ما رددته، ولا حللت لواءً عقده رسول الله . ويأتيه عمر ويقول عن الأنصار: أمروني أن أبلغك لو وليت أمر الجيش من هو أقدم سنًا من أسامة حيث كان أسامة قريب الثمان عشرة سنة، فوثب أبو بكر وكان جالسًا وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه؟! وأمر بالجيش فجمع وأوصاهم بوصاياه العظيمة في الحرب، ويركب أسامة فرسه وأبو بكر تحت عنقها يمشي معه يودعه ويوصيه، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن، قال: والله لا تنزل، ووالله لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة. لله دره من حزم وثبات وشجاعة وإقدام.

ومثل هذا حرب المرتدين يوم أن فرقوا بين الصلاة والزكاة، والصحابة يراجعون أبا بكر، وعمر يأتيه ويقول: علام نقاتلهم؟! دعهم ما أقاموا الصلاة، وأبو بكر يرفض، ويجأر بأعلى صوته: لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، ولو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه، ومضى جيش المسلمين لحرب المرتدين كما أراد أبو بكر، ويعود مظفرًا منصورًا، فما كان من عمر بعدها إلا أن قبّل رأس أبي بكر وقال: وجدتك ـ والله ـ أحسم مني وأمضى.

الموقف السادس: روي في السير عن عمر بن الخطاب قال: كنت أفتقد أبا بكر أيام خلافته ما بين فترة وأخرى، فلحقته يومًا فإذا هو بظاهر المدينة ـ خارجها ـ قد خرج متسللاً، فأدركته وقد دخل بيتًا حقيرًا في ضواحي المدينة، فمكثت هناك مدة، ثم خرج وعاد إلى المدينة، فقلت: لأدخلن هذا البيت، فدخلت فإذا امرأة عجوز عمياء وحولها صبية صغار، فقلت: يرحمك الله يا أمة الله من هذا الرجل الذي خرج منكم الآن؟ قالت: إنه ليتردّد علينا، ووالله إني لا أعرفه، فقلت: فما يفعل؟ فقالت: إنه يأتي إلينا فيكنس دارنا، ويطبخ عشاءنا، وينظف قدورنا، ويجلب لنا الماء، ثم يذهب، فبكى عمر حينذاك وقال: الله أكبر، والله لقد أتعبتَ من بعدك يا أبا بكر.

وتنتهي هذه الحياة الحافلة بالعطاء، ويمرض أبو بكر الصديق خمسة عشر يومًا، يثقل يومًا بعد يوم، ولما حضرته الوفاة إذ بالصدّيقة عائشة عند رأسه تبكي وتقول:

لعمروك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر

فيقول أبو بكر: لا تقولي هكذا يا بنية، ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]. ويموت ويدفن بجانب إمامه رسول الله ، وتأتي عائشة ابنته، فتقف على قبره والدموع في عينيها وتقول: نضّر الله وجهك يا أبتاه، وشكر لك صالح سعيك، فلقد كنت للدنيا مذلاً بإعراضك عنها، وللآخرة مغرًا بإقبالك عليها، ولئن كان أجلّ الحوادث بعد رسول الله رزءك وأعظم المصائب بعده فقدك إن كتاب الله ليعد بالعزاء عنك حسن العوض منك، فأنا أنتجز من الله موعده فيك بالصبر عليك، وأستعيضه منك بالدعاء لك، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، وعليك السلام ورحمة الله، توديع غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك
عباد الله صلوا وسلموا على من امركم الله بالصلاة والسلام عليه
الدعااااااااااااء
__________________


التعديل الأخير تم بواسطة المناضل السليماني ; 30-09-2010 الساعة 07:39 AM
المناضل السليماني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-10-2010, 07:45 AM
  #2
المناضل السليماني
مشرف
المجلس الاسلامي
 الصورة الرمزية المناضل السليماني
تاريخ التسجيل: Oct 2006
المشاركات: 3,909
المناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond repute
افتراضي رد : ايه الخطيب المبارك اليك سلسة من الخطب

تم الحذف لتكراره لما قبله
__________________


التعديل الأخير تم بواسطة المناضل السليماني ; 14-10-2010 الساعة 08:47 AM
المناضل السليماني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 14-10-2010, 08:49 AM
  #3
المناضل السليماني
مشرف
المجلس الاسلامي
 الصورة الرمزية المناضل السليماني
تاريخ التسجيل: Oct 2006
المشاركات: 3,909
المناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond repute
افتراضي رد : ايه الخطيب المبارك اليك سلسة من الخطب

هذه الخطبة بعنوان إلا من أتى الله بقلب سليم

الخطبة الأولى
الحمد لله الملِك الحقِّ المبين، عالمِ الغيب والشهادة هو الرّحمن الرحيم، أحمد ربي سبحانه وأشكره على فضلِه العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، المعبود في السماء والمعبود في الأرضِ وهو الحكيم العليم، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: عباد الله، فإن الشيطان لما طُرد من الجنة امتلأ غِلاً وبُغضًا لآدم وذريته، وأخذ عهدًا على نفسه بإغوائهم وإشقائهم. ومِن أعظم وسائله في ذلك زرعُ الغلِّ والبغضاء في النفوس، وقد كان ذلك أوَّل ذنب عُصي الله تعالى به في الأرض، وأدّى إلى قتل ابن آدم الأوّل لأخيه.
واليومَ ومع تسارُع إيقاع الحياة وشدَّة تنافس الناس في أمور الدنيا شاع هذا المرضُ القلبيّ وانتشر، وأرهق أصحابَه، وكدّر معيشتهم، وأساء علاقاتِ الناس بعضهم ببعض. قلَّما ترى اليوم رجلاً وقد سلِم قلبه من الغلِّ والبغضاء. ومن مظاهر ذلك التقاطعُ والتهاجر والكراهية بين الناس والسخريةُ والحطُّ من أقدار الآخرين، وفي حين أن الناسَ يهتمّون بطهارة ظاهرهم وثيابهم وهيئاتهم، فإنّ القليل منهم من يهتمّ بطهارة قلبه وسلامته.
عباد الله، لقد امتدح الله أقوامًا بأنهم يدعونه تعالى أن يطهِّر قلوبهم ويسلِّمها من البغضاء والشحناء فقال: وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ [الحشر:10]. وأخبر سبحانه أنه لا نجاةَ يوم القيامة إلا لمن سلِم قلبه، وسلامةُ القلب تقتضي طهارتُه من الغلِّ والشحناء والبغضاء، يقول جل من قائل: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]. كما أنه سبحانه أتمَّ النعمة على أهل الجنة بأن نزعَ ما في قلوبهم من الغلّ وجعلهم إخوانًا، ذلك أن الغلَّ يُشقي صاحبه ويتعذَّب به، يقول سبحانه عن أهل الجنة: وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ [الحجر:47]. وبيَّن سبحانه أنّ من مقتضيات التقوى حصولَ ذلك الصلاح في ذات البين وطهارة القلوب وسلامتها، فقال سبحانه: فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال:1].
معاشر المؤمنين، إنَّ سنةَ النبي عامرةٌ بالنصوص المؤكِّدة على أهمية طهارةِ القلوب وسلامتها من الغلِّ والشحناء والبغضاء، يُسأل عليه الصلاة والسلام: أيُّ الناس أفضل؟ فيقول: ((كلّ مخموم القلب صدوق اللسان))، فيقال له: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ فيقول : ((هو التّقي النقي، لا إثم ولا بغي ولا غلَّ ولا حسد)) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، ويقول : ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا)) متفق عليه، بل إنه يقول: ((لا تدخُلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا)) رواه مسلم، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى، قال: ((إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
أيها المؤمنون، إن في سيرة النبي من المواقف العظام المؤكِّدة على هذا الأصل الكبير، أصلِ سلامة القلوب وطهارتها من الغلّ والشحناء، فمن أعظم المواقف قولُه حين استأذنه ملكُ الجبال أن يُطبق الأخشبين ـ وهما جبلان عظيمان يحيطان بمكة ـ على أهلها حين كذّبوه ، وحين ناصبوه العدَاء، فقال وقد سلِم قلبه وامتلأ بالطهارة وانعدم منه الغلّ والشحناء: ((بل أرجو الله أن يخرجَ من أصلابهم من يعبدُ الله وحده)) متفق عليه، وقال في موقفٍ آخر: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) رواه مسلم، وقد ذكر الطبراني بإسناد صحيح قصةَ هذا الحديث الذي وقع في أعقاب إيذاءٍ عظيم حصل للنبي ، وحين دخل عليه الصلاة والسلام مكةَ فاتحًا لها وصارت تحت قبضته عليه الصلاة والسلام قال لأهلها الذين ناصبوه العداء واتهموه في عقله فقالوا عنه: مجنون، واتهموه في عدالته فقالوا عنه: كاذب، وآذوه في نفسه وفي أصحابه، قال لهم حينئذ: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، وقال في موقفٍ آخر ينمّ عن مدى طهارة قلبه وسلامته من الغلّ والشحناء وعدم إرادته تكدُّرَ نفسه بشيء من ذلك: ((لا يُبلِغني أحدٌ عن أحد من أصحابي شيئًا، فإني أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليمُ الصدر)) رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح.
أيها المؤمنون، ولقد فقه الصحابةُ هذا الأمرَ العظيم، فإذا بهم يحرصون على تنقية قلوبهم وسلامتها، وحين قال ذاتَ يوم لأصحابه: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أَهل الجنة))، فطلع رجل تنطف لحيته ماءً من أثر الوضوء، فتبعه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فبات عنده ثلاث ليالٍ، فلم يرَ عنده كثيرَ صلاة ولا صيام، فسأله الخبر، فقال له: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه. رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح. بل إنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه وخليفته وأفضل المؤمنين أبي بكر رضي الله عنه ذات يوم: ((يا أبا بكر، لعلَّك أغضبتهم ـ يعني أصحابه من أهل الصفة ـ، لئن كنتَ أغضبتَهم لقد أغضبتَ ربَّك))، فأتاهم أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا إخوتاه، أأغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفرُ الله لك يا أُخَيّ. رواه مسلم.
وقصةٌ أخرى لأبي دجانة رضي الله عنه الذي تذكّر شيئًا من أرجى أعماله في لحظاته الأخيرة فقال: كنتُ لا أتكلّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا. لم يتذكر موقفه العظيم في يوم أحد حينَ أخذ السيف بحقِّه، فجالد به المشركين، لكنه تذكّر سلامة قلبه وطهارتَه لإخوانه المسلمين. وحين قال رجلٌ لعمرو بن العاص رضي الله عنه: والله، لأتفرّغنَّ لك، قال له كلمة تنمّ عن حكمة عظيمة: إذا تقَعُ في الشُّغل. فإنّ من أشغَلَ قلبه بالآخرين غِلاً وحسَدًا وقع في الهمّ والبلاء، وأشغل نفسه ووقته بما لا يعنيه وما لا طائلَ له من ورائه.
عباد الله، إن سلفنا الصالحَ قد راعَوا هذا الأمر واهتموا به أشدَّ الاهتمام، هذا إمام السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد أوذي وسجن وعذِّب عذابًا شديدًا، لكنه بعد تلك المحنة يصفَح عن كلِّ من أساء إليه إبَّان سجنه فيقول لأحدهم: "أنت في حلٍّ، وكل من ذكرني في حلّ، إلا مبتدع، وقد جعلت أبا إسحاق في حلّ ـ يعني المعتصم أمير المؤمنين ـ رأيتُ الله يقول: وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ [النور:22]، وما ينفعك أن يعذَّب أخوك المسلم بسببك؟". وله موقفٌ آخر رحمه الله حين قيل له: نكتُب عن محمد بن منصور الطوسي؟ قال: "إذا لم تكتب عنه فعمّن يكون ذلك؟!" قالها مرارًا، فقيل له: إنه يتكلّم فيك، قال: "رجل صالح، ابتلي فينا فما نعمل؟!" فلم يمنعه كونُ الرجل يتكلّم فيه من تزكيته؛ لأن قلبه قد سلم من الغلّ والبغضاء والشحناء.
وموقفٌ آخر للإمام الشافعي رحمه الله بعدَ أن ناظره يونس الصّدفي، فلما لقيه بعد ذلك أخذ بيده وقال له: "يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكونَ إخوانًا وإن لم نتّفق في مسألة؟!" وهذا ما حمل الصدفي على القول: "ما رأيت أعقل من الشافعي".
أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد كان له موقفٌ من أعدائه وخصومه، حيث صفح عنهم وعفَا قائلاً: "لا أحبّ أن يُنتَصَر من أحد بسبب كذبه عليّ أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللتُ كلَّ مسلم، والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي"، وذكر تلميذه ابن القيم أنه ما رأى أحدًا أجمع لخصالِ الصفح والعفو وسلامة الصدر من ابن تيمية، وأن أحد تلاميذه بشّره بموتِ أكبر أعدائه الذين آذوه، فنهره ابن تيمية وغضب عليه واسترجع وقام من فوره، فعزّى أهل الميت، وقال لهم: "إني لكم مكانَه".
فأين هذه المواقف ـ عباد الله ـ من قلوب مُلِئت غلاً وبُغضًا؟! إنك لتجد الرجلين في مجلسٍ واحد وما بينهما أحدٌ، لكن في قلب كلِّ منهما مثل الجبل العظيم من الغلّ والحسد والبغضاء على الآخر، وإنك لتجد الجارين ليس بينهما إلا جدار واحدٌ لا يطيق أحدهم الآخر، فضلاً عما يحصل من السخرية والاستهزاء والهمز واللمز والتنابز بالألقاب والغيبة في المجالس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَـٰبِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ [الحجرات:11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون من القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.




الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وإمامنا وقدوتنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد: عباد الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله لنا وللذين من قبلنا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ [النساء:131].
أيها المؤمنون، ما هي أسباب الغلّ والشحناء؟ وما هي الآثار التي تنتُج عنه على الأفراد والمجتمعات؟ وما هي وسائل العلاج التي يُتَّقى بها هذا المرض القلبي الخطير؟ أسئلة ثلاثة هي من الأهمية بمكان.
أما أسباب هذه الظاهرة:
فأولها: تحريش الشيطان بين المؤمنين، فقد قال الله سبحانه: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53]، وقد قال : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)). وقد نال من خلال هذا المسلك كثيرًا من مُراده ومبتغاه حين أكلس له كثير من الناس عنانهم، فانساقوا خلفَ هذا المرض القلبي.
ومن الأسباب الغضب، فإن الإنسان إذا عجز عن إخراج غضبه رجع إلى باطنه فصار حقدًا وغلاً، ولذلك أوصى النبي ذلك الرجلَ بأن لا يغضب، فردد مرارًا فأوصاه بهذه الوصية العظيمة.
من الأسباب كذلك الحسد، وقد قال : ((دَبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء)). والحسدُ هو تمنّي زوال النعمة عن الآخرين، وهو مرضٌ من أخطر أمراض القلوب.
ومن أسباب التشاحن والغلّ بين الناس الهوى والجدال والتعصّب للرأي، حين يتعصّب كلُّ أحد لرأيه، ويجادل عنه جدالاً مذمومًا، ويتقاصر عن ذلك في سبيل أن يؤدّي إلى نصرة ما أراده من هواه ورغباته الشخصية، فإنه حينئذ سوف يحمل الحقد والشحناءَ والبغضاء على من خالفه في رأيه؛ لأن الوصولَ إلى الحق لم يكن الدافع في هذا النقاش الذي دار بينهما.
ومن الأسباب كذلك ـ عباد الله ـ التنافسُ على الدنيا وحطامها، فإنها ترهِق أصحابها المتنافسين في طلبها، وتحصُل العداوات بسببها، وقد قال ذاتَ يوم لأصحابه: ((إذا فُتحت عليكم فارس والروم أيّ قوم أنتم؟)) قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال : ((أو غير ذلك، تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون)) رواه مسلم.
ومن الأسباب كذلك النجوى وكثرة المزَاحُ، وقد أخبر الله سبحانه أن النجوى من الشيطان، والنجوى أن يتحادث اثنان دون الثالث وليس في المجلس سواهم، فهذا مما يوغر الصدور، ويحرّش بين الناس، كما جاء في حديث النبي .
أيها المسلمون، ما هي الآثار التي تترتّب على الغلّ والشحناء؟
إن من أهمها التفرق والضعف والهوان، وقد بين لنا ربنا ذلك في قوله: وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
ومن آثارها تأخيرُ مغفرة الذنوب، وقد قال : ((تعرض الأعمال كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك به شيئًا، إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أَنظروا هذين حتى يصطلحا)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
من الآثار الوعيدُ بسوء الخاتمة في حقّ من كان قلبُه يحمل الغلَّ والحسدَ والبغضاء على إخوانه، وقد قال : ((لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجره فوق ثلاث فمات دخل النار)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
ومن الآثار كذلك ما يقع في القلب من الأذى والهمّ والغمّ والعذاب الذي يتلظّى به صاحبُ الشحناء والبغضاء، ولذلك كان من نعيم أهل الجنة أن نزع الله من صدورهم الغل.
عباد الله، من الآثار الغيبةُ والنميمةُ وتتبُّع الزلات والهمز واللمز، فقلّما تجد من يحمل في قلبه شحناءَ على مسلم إلا وسعى في كل مجلسٍ إلى عيْبه وهمزه ولمزه وتنقُّصه، بل وقوع في الكذب في كثير من الأحيان وفي الظلم وتجاوز الحدّ وغفلةٍ عن عيوب النفس وأخطائها.
إخوتي الكرام، أما كيفية سلامة الصدور وعلاجها من هذا الداء فإن أعظم ذلك إخلاصُ العمل لله عز وجل، بأن يكون المقصد هو وجهه سبحانه، وقد جاء في الصحيح عنه : ((ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مسلم: إخلاصُ العمل، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) رواه الإمام أحمد.
ومن العلاج كذلك ملازمةُ الدعاء وسؤال الله عز وجل أن يطهِّر القلبَ من هذا المرض، يقول سبحانه مبينًا حال المؤمنين الممتَدَحين: وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ [الحشر:10]، وقد جاء في دعائه : ((واسْلُل سخيمةَ قلبي))، وقال سبحانه: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ [فصلت:36].
ومن العلاج حُسنُ الظن بالأخ المسلم، وإعذار المخطئ من الناس، فإن المسلمَ حين يحمل إخوانه على مبدأ حسن الظن ويعذرهم إذا أخطؤوا فإن قلبه يبقى سالمًا له من الغلّ والشحناء.
ومن العلاج كذلك صيامُ ثلاثة أيام من كلّ شهر، فقد قال : ((ألا أخبركم بما يذهب وحرَ الصدر؟! صوم ثلاثة أيام من كل شهر)) رواه النسائي.
ومن العلاج الهديةُ وإفشاء السلام، وقد جاء في الحديث: ((تهادَوا تحابّوا))، وقوله : ((أفشوا السلام بينكم)).
والصدقة كذلك والكلمة الطيبة من العلاج لهذا المرض، يقول سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، ويقول سبحانه: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ .
إخوتي الكرام، صلوا وسلموا بعد ذلك على الهادي البشير والسراج المنير، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته المسبّحة بقدسه، وثلث بكم أيها الموحدون من جنه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء...
__________________

المناضل السليماني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 28-10-2010, 12:19 PM
  #4
المناضل السليماني
مشرف
المجلس الاسلامي
 الصورة الرمزية المناضل السليماني
تاريخ التسجيل: Oct 2006
المشاركات: 3,909
المناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond repute
افتراضي رد : ايه الخطيب المبارك اليك سلسة من الخطب

زَوجاتٌ مبارَكات، ونِساء عظيمَات.

الحمد لله نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصره على أعدائه، ونؤمن به حقا، ونتوكل عليه صدقاً، مفوضين إليه أمورنا، وملجئين إليه ظهورنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه على فترة من الرسل، ودُروس من العلم، وإدبارٍ من الدنيا، وإقبال من الآخرة، بشيراً بالنعيم المقيم، ونذيراً بين يدي عذاب أليم، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله، فأدى عن الله وعده ووعيده، حتى أتاه اليقين، فعليه من الله صلاة ورحمة وسلام إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فتقوَى الله ذِكرَى لكلّ أوّابٍ ونجاةٌ للعبادِ من العَذاب.
أيّها المسلِمون، تسعَد المرأةُ المسلِمة باقتِفاءِ أثرِ خَيرِ نِساءٍ عِشنَ في أفضلِ القرون وتربَّين في أَجلِّ البيوتِ بيتِ النّبوّة، أعلَى الله مَكانتَهن، وأجَلَّ قَدرَهن، ونزَل القرآن بالثّناءِ عَليهنّ، قال عزّ وجلّ: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب:32]،
زَوجاتٌ مبارَكات، ونِساء عظيمَات.
أُولاهنّ المرأة العاقِلَة الحاذِقة ذاتُ الدين والنسب خديجة بنت خُويلدٍ رضي الله عنها، نشأت على التخلُّق بالفضائلِ والتحلِّي بالآداب والكرَم، واتَّصفت بالعفّة والشرف، كانت تُدعَى بين نساءِ مكّة بالطاهرة. تزوَّجَها المصطفى فكانت نِعمَ الزوجة له، آوَته بنفسِها ومالها ورجَاحةِ عقلها، وفي أحزانِه عليه الصلاة والسلام كان يأوِي إليها ويبُثّ إليها همومه. نزل عليه الوحيُ أوّلَ نزوله فرجَع إليها يرجُف فؤادُه من هَول ما رأى، وقال لها: ((ما لي يا خديجة؟! لقد خشِيتُ على نفسي))، فتلقَّته بقَلبٍ ثابت وقالت له: كلاَّ والله، لا يخزيك الله أبدًا .
لاحَ الإسلام في دارِها فكانت أوّلَ من آمن من هذه الأمة، قال ابن الأثير رحمه الله: "خديجة أوّلُ خلقِ الله إسلامًا بإجماعِ المسلمين، لم يتقدَّمها رجلٌ ولا امرَأَة"0
عظُمَت الشّدائِد على النبيّ في مطلَع دعوتِه، واشتدَّ الإيذاء، فكانت له قلبًا حانيًا ورأيًا ثاقبًا، لا يسمَع من الناسِ شيئًا يكرهه ثم يرجِع إليها إلاّ ثبَّتته وهوَّنت عليه، يقول النبيّ : ((آمنت بي إذ كَفَر بي النّاس، وصدّقتني إذ كذَّبني الناس، وواسَتني بمالها إذ حرَمني الناس، ورزَقني الله ولدَها إذ حرمني أولادَ النساء)) رواه أحمد.
عظيمة بارّةٌ بزوجِها وأمّ حنون، جميع أولادِ النبيّ منها سوَى إبراهيم، أدبُها رفيعٌ وخُلُقها جَمّ، لم تراجِعِ المصطفى يومًا في الكلامِ، ولم تؤذِه في خِصام، يقول النبيّ : ((أتاني جبريل فقال: بشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصب ـ أي: لؤلؤ مجوَّف ـ، لا صخَبَ ولا نصَب)) متفق عليه. قال السّهيليّ رحمه الله: "إنما بشَّرها ببيتٍ في الجنة لأنها لم ترفَع صوتَها على النبيّ ، ولم تُتعِبه يومًا من الدهر، فلم تصخَب عليه يومًا، ولا آذته أبدًا".
كانت راضيَةً مرضيّة عند ربِّها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((قال لي جبريل: إذا أتتك خديجة فأقرِئ عليها السلام من ربِّها ومنّي)) متفق عليه0قال ابن القيّم رحمه الله: "وهي فضيلةٌ لا تعرَف لامرأةٍ سِواها". أحبَّها الله وأحبَّتها الملائكة وأحبَّها النبيّ ، يقول : ((إنّي رُزِقت حبَّها)) رواه مسلم
كان إذَا ذكرَها أعلَى شأنَها وشكَر صُحبتَها، تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبيّ إذا ذكَر خديجةَ لم يكن يسأَم من ثَناءٍ عليها واستغفارٍ له]. حفِظ لها وُدَّها ووفاءها، فكان يكرِم صاحِبَاتها بعدَ وفاتِها، تقول عائشة رضي الله عنها: وربَّما ذبح الشاةَ، ثم يقطِّعها أعضاءً، ثمّ يبعثها إلى صديقاتِ خديجة، فربما قُلتُ له: كأنّه لم يكن في الدّنيا امرأةٌ إلاّ خديجة! فيقول: ((إنها كانت وكانَت، وكان لي منها ولد)) رواه البخاري.
سمع النبيُّ صوتَ أختِها بعد وفاتها فحزِن كثيرًا وقال: ((ذكَّرتني بخديجة)) رواه البخاري
كمُلَت في دينها وعقلِها وخلُقها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النّساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسيةُ امرأة فرعون، وخديجة بنتُ خويلد)) رواه ابن مردويه.
سبَقَت نساءَ هذه الأمة في الخيريّة والشرف والسناء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((خيرُ نِسائِها ـ أي: في زمانها ـ مريمُ بنت عمران، وخير نسائِها ـ أي: مِن هذه الأمّة ـ خديجة)) متفق عليه
صَلحت في نفسِها وأصلَحَت بيتَها، فجَنَت ثمرةَ جُهدها، فأصبَحَت هي وابنتُها خيرَ نساء العالمين في الجنّة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أفضَلُ نِساء أهلِ الجنّة خديجةُ وفاطمة ومريمُ وآسية)) رواه أحمد
كانت عظيمةً في فؤادِ النبيّ ، فلم يتزوَّج امرأةً قبلَها ولم يتزوَّج امرأةً معها ولا تسرَّى إلى أن قضَت نحبَها، فحزِنَ لفَقدِها، يقول الذهبيّ رحمه الله: "كانت عاقِلةً جليلةً ديِّنةً مَصونةً كريمةً من أهلِ الجنة"
وفي بَيتِ الصّدقِ والتّقوَى ولِدَت عائشة بنتُ أبي بكر الصديق رضي الله عنها، ونشأت في بيتِ الإيمان، فأمُّها صحابية، وأختُها أسماء ذاتُ النطاقين صحابيّة، وأخوهَا صحابيّ، ووالِدُها صِدّيق هذه الأمة. ترَعرَعت في بيتِ عِلم، كان أبوها علاَّمةَ قريشِ ونَسَّابَتها، منحَها الله ذكاءً متدفِّقًا وحفظًا ثاقِبًا، قال ابن كثيرٍ رحمه الله: "لم يكن في الأمَمِ مثلُ عائشَةَ في حفظها وعلمِها وفصاحتِها وعَقلها"، فاقَت نساءَ جِنسها في العِلم والحكمة، رزِقَت في الفقه فهمًا وفي الشعر حِفظًا، وكانت لعلومِ الشّريعة وِعاءً، يقول الذهبي رحمه الله: " أفقَهُ نساءِ الأمّة على الإطلاق، ولا أعلَمُ في أمّة محمد بل ولا في النّساء مطلَقًا امرأةً أعلَم منها .
سمَت على النساء بفضائِلِها وجميلِ عِشرتها، يقول المصطفى : ((فضل عائشةَ على النساء كفضلِ الثريد على سائر الطعام)) متفق علي 0
أحبَّها النبي ، وما كان ليحبّ إلا طيّبًا، يقول عمرو بن العاص : أيّ النّاس أحبّ إليك يا رسول الله؟ قال: ((عائشة))، قلت: فمن الرجال؟ قال: ((أبوها)) رواه البخاري .
لم يتزوَّج بِكرًا غيرَها، ولا نزَل الوحيُ في لحافِ امرأةٍ سواها، عَفيفةٌ في نفسها، عابِدة لربِّها، لا تخرُج من دارِها إلاّ ليلاً لئلا يراها الرّجال، تقول عن نفسِها: كنّا لا نخرُج إلاّ ليلاً، محقّقةً قولَ الله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، قال القرطبيّ رحمه الله: "والشريعةُ طافِحَة بلزوم النّساءِ بيوتَهنّ والانكفافِ عن الخروج منها إلا لضرورَة.. فإن مَسّت الحاجةُ إلى الخروجِ فَليكُن على تبذُّلٍ وتستّر تامّ.
والله يبتلِي من يحِبّ، والابتلاء على قدرِ الإيمان، بُهِتَت رضي الله عنها وعُمرُها اثنَا عشرَ عامًا، قالت: فبكَيتُ حتى لا أَكتحِل بنوم ولا يَرقأ لي دَمع، حتى ظنَّ أبواي أنّ البكاءَ فالِقٌ كبِدِي، واشتدَّ بها البلاء، قالت: حتى قلَصَ دمعي فلا أحسّ منه قطرة. قال ابن كثير رحمه الله: فغارَ الله لها، وأنزَل براءتها في عشرِ آيات تتلَى على الزمان، فسمَا ذكرُها وعلا شأنها؛ لتسمَعَ عَفافها وهي في صباها. فشَهِدَ الله لها بأنها من الطيّبات، ووعَدَها بمغفرةٍ ورزق كريم.
لم تزل ساهِرةً على نبيِّنا ، تمرِّضُه وتقوم بخدمتِه، حتى توفِّيَ في بيتها وليلَتِها وبين سَحرِها ونحرِها.
وسَليمَةُ القلب سَودةُ بنت زمعَة رضي الله عنها، أوّلُ من تزوّجَ بها النبيّ بعد خديجَة، وانفردَت به نحوًا من ثلاثِ سنين، كانت جليلةً نبيلَة، رزِقَت صفاءَ السّريرةِ، وَهَبت يومَها لعائشةَ رضي الله عنها رِعايةً لقلب النبي تبتَغِي رِضَا ربِّها.
والقوّامَةُ الصّوّامة حفصةُ بنت أميرِ المؤمنين عمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه، نشَأت في بيتِ نُصرةِ الدين وإظهارِ الحق، سَبعةٌ مِن أهلها شهدوا بدرًا، تقول عنها عائشة رضي الله عنها: هِي التي كانت تُسامِيني من أزواجِ النبيّ.
والمُنفقةُ زينبُ بنت خُزيمة الهلاليّة، ذات البذلِ والمسارعة في الخيرات، مكثَت عند النبيّ شهرَين ثم توفِّيَت.
والمهاجرة المحتسِبَة أمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيانَ رضي الله عنها، ليس في أزواجِهِ مَن هي أقربُ نسبًا إليه منها، ولا في نسائِه مَن هي أكثرُ صَداقًا منها، ولا فيمَن تزوَّج بها وهي نائِيَة الدارِ أبعَدَ منها، عقَدَ عليها وهي في الحبَشَة فارّةٌ بدينها، وأصدَقَها عنه صاحِبُ الحبَشَة وجهَّزها إليه.
والصّابِرة الحيِيَّة أمّ سلمة رضي الله عنها هندُ بنت أبي أميّة مِنَ المهاجرات الأوَل، ولمّا أرادتِ الهجرةَ إلى المدينة مع زوجِها أبي سلمة فرَّقَ قومُها بينها وبين زوجِها وطِفلِها، قالت: فكُنتُ أخرج كلَّ غداة وأجلس بالأبطَح، فما أزال أبكي حتى أمسِي سنةً كاملة أو قريبًا منها، حتى أشفَقوا عليَّ فأعادوا إليَّ طفلي0
يقينُها بالله راسِخ، توفِّيَ عنها زوجها أبو سلمة فقالت دعاءً نبويًّا، فعوَّضها الله برسول الله زوجًا لها، تقول: سمعتُ النبيَّ يقول: ((ما مِن مسلم تصيبُه مصيبةٌ فيقول: إنّا لله وإنا إليه راجعون اللّهمّ أجُرني في مصيبتي وأخلِف لي خيرًا منها إلا أخلَف الله له خيرًا منها))، قالت: فلمّا مات أبو سلمة قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة أوّل بيت هاجر إلى رسول الله؟! ثمّ إني قلتها فأخلَف لي رسولَ الله . رواه مسلم. فاجعَل هذا الدعاءَ ذُخرًا لك عندَ حلولِ المصاب يعوّضْك خيرًا من مصيبَتِك.
وأمّ المساكين زَينبُ بنتُ جَحش بنت عمّةِ رسول الله ، نَعِمت بالحسَب والنّسب والشرف والبَهاء، زوَّجَها الله نبيَّه بنصِّ كتابِه، بلا وليٍّ ولا شاهد، قال عز وجل: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37]. زواجُ النبيِّ بها بركَةٌ على المسلِمات إلى قيامِ الساعة حين فُرِض الحجابُ على بناتِ حوّاء بعد أن تزوَّجها؛ ليكونَ صِيانة للشّرَف والعفاف والنقاء.
سخِيَّة العطاءِ للفقراءِ والضّعفاء، كثيرةُ البرّ والصدقة، ومع شريف مكانتِها وعلوِّ شأنها كانت تعمَل بيدها تدبَغ وتخرزُ وتتصدَّق من كسبِها، قالت عنها عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ امرأة خيرًا في الدّين من زينب؛ أتقَى لله وأصدَق حديثًا وأوصَل للرّحم وأعظم صدقةرواه مسلم.
والعابدة جويرية بنت الحارث رضي الله عنها من بني المصطلِق، أبوها سيِّدٌ مطاع في قومه، وهي مبارَكَة في نفسها وعلى أهلها، تقول عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ امرأةً كانت أعظمَ بركةً على قومِها منهارواه الامام احمد والحاكم وغيرهما.
كثيرةُ التعبُّد لربِّها، قانتةٌ لمولاها، كانت تجلِس في مصلاَّهَا تذكرُ الله إلى نصفِ النّهار، تقول: أتى عليَّ رسول الله غُدوة وأنا أسبِّح، ثم انطلَقَ لحاجته، ثمّ رجع قريبًا من نصف النهار، فقال: ((أما زِلتِ قاعدة؟)) يعني: تذكرِينَ الله، قالت: نعم. رواه مسلم .
والوجيهةُ صفيّة بنت حيَيّ رضي الله عنها، مِن ذرّيّة هارونَ عليه السلام، كانت شريفةً عاقلة ذاتَ مكانةٍ ودين وحِلم ووقار، قال لها النبي : ((إنك لابنةُ نبيّ ـ أي: هارون ـ، وإنَّ عمَّك لنبيّ ـ أي: موسى ـ، وإنّك لتحتَ نبيّ)) رواه الترمذي
كانت وليمةُ النبيّ عليها في زواجِها السّمن والأقِط والتمر، فكان زواجًا ميسَّرًا مباركًا.
وواصِلة الرّحِم أمّ المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلاليّة رضي الله عنها من عظماءِ النساء، منحَها الله صفاءَ القلب ونقاء السريرة وملازمةَ العبادةِ، تقول عائشة رضي الله عنها: أما إنَّها كانت من أتقانَا لله وأوصلِنا للرحم.
وبعد: أيها المسلمون، فتلك سيرةُ الخالداتِ في الإسلام أمّهات المؤمنين، مَناقبهنّ مشرِقة، جمعنَ بين المحاسِنِ والفَضائل، حقيقٌ بنساءِ المسلمين أن يجعلنَهنّ نِبراسًا للحياة، يرتَشِفن من معينِ مآثرهن، ويقتدينَ بهن في الدين والخلق ومراقبَةِ الله والانقياد التام لله ورسوله وملازمةِ العبادة والإكثار من الطاعات والصّدق في الحديث وحفظ اللسان والبذل للفقراء وتفريجِ كرُبات الضعفاء والسعيِ لإصلاح الأبناء والصّبر على تقويمِ عوَجِهم والتحصُّن بالعلم وسؤالِ العلماء الراسخين وملازمة السّترِ والعفاف والقرارِ في البيوت والحِجاب والبعد عن الشبهات والشهوات والحذَرِ من طول الأمل والغفلة في الحياة أو الاعتِناء بالظاهِر مع فسادِ الباطن وإطلاق البصَر في المحرّمات والخضوع بالقول مع الرجال، وليَحذَرن من الأبواقِ الدّاعية إلى التبرّج والاختلاط بالرّجال، فشموخُ المرأة وعزُّها في دينِها وحِجابها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني الله وإياكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من ك ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أيّها المسلمون، زوجاتُ النبيِّ عِشن معه في بَيتٍ متواضِع، في حجراتٍ بنِيت من اللّبِن وسَعَف النخل، ولكنه ملِيء بالإيمان والتقَوى، صبَرن مع النبيّ على الفقرِ والجوع، كان يأتي عليهنّ الشهر والشهران وما يوقد في بيوتهنّ نار، وتأتي أيّامٌ وليس في بيوتهنّ سِوى تمرة واحدة، ويمرّ زمنٌ من الدّهر ليس فيها سِوى الماء بدون طَعام، قناعةٌ في العيش وصَبر على موعودِ الله، وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى [الضحى:4].
أجورهنّ مُضاعفة مرتين، وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب:31].
خمسٌ منهنّ تزوَّجهنّ عليه الصلاة والسلام وأعمارهنّ مِن الأربعين إلى الستّين عامًا، حقَّق بذلك رعايةَ الأراملِ وكفالة صبيانهنّ الأيتام. تزوَّجَ خديجةَ رضي الله عنها وعمرها أربعون عامًا ولها ثلاثةُ أولادٍ من غيره، وهو لم يتزوَّج بعد، وتزوَّجَ زينبَ بنت خزيمة وهي أرملةٌ ناهزَت الستّين من عُمرِها، وتزوّج أم سلَمَة وهي أرمَلَة ولها ستّة أولاد، وتزوَّجَ سودَةَ وهي أرملةٌ وعمرها خمسَةٌ وخمسون عامًا.
تزوَّج من الأقارب من بناتِ عمّه وعمّاتِه، وتزوّج من الأباعد، وكان لهنّ زوجًا رحيمًا برًّا كريمًا جميلَ العِشرة معهنّ دائمَ البِشر متلطِّفًا معهنّ، فمن طلَب السعادةَ فليجعَل خيرَ البشَر قدوةً له، ولتلحَقِ المسلمة بركابِ زوجاتِه الصالحات، فلا فلاحَ للمرأة إلا بالاقتفاءِ بمآثرهنّ في السترِ والصلاح والتقوى والإحسان إلى الزّوج والولد.
ثم اعلَموا أن الله أمَركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكمِ التّنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحقّ وبه كان يعدلون: أبي بكر وعمرَ وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين
...
__________________

المناضل السليماني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-11-2010, 09:13 PM
  #5
المناضل السليماني
مشرف
المجلس الاسلامي
 الصورة الرمزية المناضل السليماني
تاريخ التسجيل: Oct 2006
المشاركات: 3,909
المناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond repute
افتراضي رد : ايه الخطيب المبارك اليك سلسة من الخطب

قصة نبي الله ابراهيم عليه السلام وزوجته هاجر وطرفا من حج رسول الله
الخطبة الأولى
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستعفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلاهادي له واشهد ان لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ثم اما بعد فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل

أما بعد: أيها المسلمون، لقد جاء إبراهيم عليه السلام بزوجه هاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت العتيق، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما ماء وتمرًا، ثم انطلق إبراهيم عليه السلام، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! قالت ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا. ثم انطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات: ربَّنَا إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]. وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نَفِد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فقامت على الصفا ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا، ثم تسمّعت فسمعت أيضًا، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه بيدها، فشربت وأرضعت، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن هذا البيت يبنيه هذا الغلام وأبوه. رواه البخاري في صحيحه.

وتمضي الأيام وتمر السنون ويبني الخليل عليه السلام وابنه البيت، ويأمر الله خليله إبراهيم بأن يؤذّن في الناس بالحج إلى ذلك البيت: وَأَذّن فِي النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]. ومنذ ذلك الحين وجموع الناس تفِد إلى ذلك المكان شوقًا وحنينًا.

قف بالأباطح تسري فِي مشارفهـا مواكب النور هامت بالتقى شغفا

مـن كل فـج أتـت لله طـائعة أفواجها ترتَجي عفوا الكريم عفا

صوب الحطيم خطت أو المقام مشت مثل الحمائم سربًا بالحمى اعتكفا

فما أروعها من رحلة، وما أعظمه من منظر يأخذ الألباب. فهل شممتَ عبيرًا أزكى من غبار المحرمين؟! وهل رأيت لباسًا قط أجمل من لباس الحجاج والمعتمرين؟! هل رأيت رؤوسًا أعز وأكرم من رؤوس المحلّقين والمقصرين؟! وهل مرّ بك ركبٌ أشرف من ركب الطائفين؟! وهل سمعتَ نظمًا أروع وأعذب من تلبية الملبّين وأنين التائبين وتأوه الخاشعين ومناجاة المنكسرين؟!

أيّها الإخوة المسلمون، لنتذكر جميعًا أطهر نفس أحرمت، وأزكى روح هتفت، وأفضل قدم طافت وسعت، وأعذب شفة نطقت وكبّرت وهللت، وأشرف يد رمت واستلمت، يَنقلُ خُطاه في المشاعر، ينتقل مع أصحابه ومحبيه مرددين تلك الكلمات الخالدات، ومترنمين بتلك العبارات الناصعات: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

يتقدم في إحرامه الطاهر وقلبه الخاشع وخلقه المتواضع، يتقدم إلى حيث ذكريات جده أبي الحنيفية ومُرسِي دعائم هذا البيت العتيق، وجنبات الحرم تدوّي بالتهليل والتكبير: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. كلمات التلبية وعبارات التوحيد تملأ المكان وتُطرِبُ الزمان وتتصاعد في إخلاصها إلى الواحد الديّان، ويقترب الرسول من الحجر الأسود ليقبّله قبلة ترتسِم على جبينه درّة مضيئة على مرّ السنين، لم يتمالك نفسه صاحب النفس الخاشعة والعين الدامعة، فينثر دموعه مدرارًا، وتتحدر على خده الشريف المشرق ، كان عمر بن الخطاب يتابع الموقف بلهفة وتعجب: يا رسول الله، لماذا تبكي؟! يكفكف دموعه الطاهرة ويجيب عمر بعباراتٍ هادئة خاشعة باكية قائلاً: ((هنا تسكب العبرات يا عمر)).

أيها المسلمون، حجّ المصطفى حجة واحدة، حجة جموع ودموع، حيث تقاطرت الوفود من كلّ فج، لتنال شرف الصحبةِ مع رسول الله . وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة نزل قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. وأعظِم به من فقه عُمَري لأنه استشعر وفاة النبي ، وسمِّيت حجة الوداع. روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع. وكان صلوات ربي وسلامه عليه يقول: ((إني ـ والله ـ لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)). وكان يقول في كلّ موطن: ((خذوا عني مناسككم)). إنها وصية النبي لكل حاج أن يتعلم أحكام الحج، ((خذوا عني مناسككم)). وصية النبي لكل من شرّفهم الله بمباشرة خدمة الحجيج، أن يتّقوا الله فيهم ويسلكوا بهم هدي المصطفى ، إحرامًا وتفويجا، إفاضةً ومبيتا، طوفًا وسعيا، نصحًا وإرشادا، بيعًا وشراء. أن يحسنوا الاستقبال، ويؤدوا الواجب بلا استغلال، بالكلمة الطيبة وبالطريقة الطيبة، وبالأمر بالمعروف بالمعروف، وبالنهي عن المنكر من غير منكر.

أيها المسلمون، نتذكر في الحج يوم حج رسول الله مع مائة ألف من الصحابة حجة الوداع، ونظر رسول الله إلى الألوف المؤلفة وهي تلبي وتهرع إلى طاعة الله، فشرح صدره انقيادها للحق واهتداؤها إلى الإسلام، فعزم على أن يغرس في قلوبهم لباب الدين، وينتهز تجمعهم ليقول كلمات تبدّد آخر ما أبقت الجاهلية من مخلفات في النفوس، فيلقي خطبته الجامعة الشاملة يوم عرفة، فيبين فيها حرمة دم المسلم وماله وعظم الأمانة وخطر الربا، حتى المرأة لم تُنسَ في هذه الخطبة الجامعة، فيقول : ((واستوصوا بالنساء خيرا؛ فإنهن عوان عندكم))، وكان يشهدهم على قوله فيقول: ((ألا هل بلغت؟)) فيقول الصحابة: نعم، فيقول: ((اللهم فاشهد)). لقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم أن هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة، وهو الذي ظل ثلاثا وعشرين سنة يصل الأرض بالسماء ويغسل أدران الجاهلية. لقد أجاب الله دعاء نبيه إبراهيم: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129].

أيها المسلمون، إن المتأمل في أعمال الحج يستلهم دروسًا خالدة ومعاني سامقة، منها أن المسلم يتعود في الحج الاستسلام لله رب العالمين والاستجابة والخضوع له والطاعة، فهاجر تقول لخليل الله عليه السلام: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فأعلنت استسلامها وأذعنت لأمر ربها وخضعت لخالقها قائلة: إذًا لا يضيعنا الله. وأكرم بها من طاعة في أرض مقفِرة لا أنيس ولا ماء، ولا طعام ولا أخلاّء. ويَأمر الله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه حين بلغ السن التي يفرح فيها الوالد بولده، ولو أُمر غيره بالذبح لكان أهون، فكيف إذا كان الذابح للولد أباه؟! يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]. فيعلن الوالد والولد استجابتهما وانقيادهما وخضوعهما، فتأتي أعمال الحج لتركز هذا المفهوم وتعمّق هذا المدلول، ولهذا لا غرابة أن تجد أن المتمردين هنا مطيعون هناك. فهناك يقف الحاج في عرفة ولو تأخر عنها أو تقدم بطل حجه، ويطوف حول الكعبة وهي أحجار مغطاة بستار، ويقبّل الحجر الأسود الذي لا يضر ولا ينفع؛ يؤدي ذلك ليتربى على الاستسلام والاستجابة، ويتعود على الخضوع والطاعة قائلاً في كل نسك وفي كل أمر ونهي: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"، حتى إذا عاد إلى بلده وبيته وعمله وتعامله وسمع الأوامر الإلهية والزواجر الشرعية قال: "لبيك اللهم لبيك". يعلنها في سائر شؤون حياته كما كان يصدح بها هناك على صعيد عرفات؛ إذ كيف يستجيب لله في تقبيل حجر ولا يستجيب فيما يجلب الخير ويدفع الضرر. إذا سمع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أرخى لها سمعه واستحضر قلبه مستسلمًا لله خاضعًا منقادًا، فهو إمّا خيرًا يؤمَر به، أو شرًا ينهى عنه. إذا سمع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]. وهكذا كلما سمع أمرًا ربانيًا أو توجيهًا نبويًا قال دون تلكّؤ أو ترّدّد: "لبيك اللهم لبيك"، قال ذلك دون أن يعرض الأمر على العادات والتقاليد، أو يستجيب لأهواء العبيد: "سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير".

أيها المسلمون، ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقّت النبي لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرنًا، ولأهل اليمن يلملم، وقال: ((هنّ لهنّ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ لمن أراد الحج والعمرة)). هذا الحديث متى قاله النبي ؟ قاله عليه الصلاة والسلام والشام والبصرة والكوفة ومصر كلّ تلك البلاد لم تفتح بعد، كلّ تلك البلاد لم تفتح إلاّ بعد وفاة النبي . قال الرسول هذا الحديث في الوقت الذي كانت فيه تلكم البلاد بأيدي الكفار وتحت حكمهم. فها هنا عدة دلالات:

الأولى: أن هذا يدلّ على معجزة من معجزات الرسول ، حيث أخبر بأمر غيبي لم يقع بعد.

الثانية: أنَّ الرسول وقّت هذه المواقيت لأهلها وأهلها لم يسلموا بعد، فدل ذلك على أنهم سيسلمون، وأن بلادهم ستفتح وسيسلم أهلها، وكل هذا حصل بعد وفاة الرسول .

الثالثة: وهذا مما نعتقده وهو أنه كما أخبر الرسول بهذه المواقيت قبل فتح بلادها وفتحت، فكذلك أخبر الرسول بفتح بلاد أخرى كالقسطنطينية، وهذه أيضًا فتحت بعد عدّة قرون من إخبار الرسول ، وأسلم أهلها وحجّوا إلى بيت الله الحرام.

كذلك أخبر الرسول بفتح روما، وهذه أيضا ستفتح بإذن الله عز وجل وسيسلم أهلها، وإن كانت هي الآن في أيدي الكفار كما كانت الشام والعراق ومصر في أيدي الكفّار في الوقت الذي حدّد فيه الرسول المواقيت. فكل ما أخبر به الرسول في الخبر الصحيح أنه سيقع فسيقع، لا نشكّ في ذلك.

ومنه أيضًا أنه في آخر الزمان سيمكّن لهذا الدين، وأنه ما من بيت على وجه الأرض إلا وسيدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله. وتأمّل في قوله : ((ما من بيت))، ولم يقل: بلد أو دولة أو مجتمع بل: ((ما من بيت)). وإن كانت الفترة الحالية التي تمرّ بها أمة الإسلام من أصعب فتراتها، لكن هذا لن يستمر، بل سيكون له نهاية، وللكفر حدّ سيقف عنده، وللظلم حدّ سيقف عنده، بل للدنيا كلّها حدّ ستنتهي إليه، وستكون الغلبة للإسلام وأهله، وللدين وأعوانه، ولجند الله وأوليائه، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

أيها المسلمون، المحرِم عليه أن يتجنب تسعة محظورات ذكرها العلماء، وهي اجتناب قصّ الشعر والأظافر والطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس وقتل الصيد والجماع وعقد النكاح ومباشرة النساء. كل هذه الأشياء يُمنع منها المحرِم حتى يتحلّل. فمن عزم على الدخول في مؤتمر الحج العظيم وجب عليه أن يستعد له، إذًا يجب عليه قبل مجاوزة الميقات أن يحرِم، وأن يتجنّب هذه المحظورات، وهذا يعني أنه يدخل منطقة الحرم في سلام، فلا يتعرض للصيد بأذى، ولا يتعرض لآدمي أيضًا بأذى، ولا يتعرض لشجر بقطع، إنه سلام كامل، حتى شعره وأظافره لا يقص شيئًا منها، فهذا فضلاً عن كونها علامة على التقشّف، إلا أنها تشير إلى معنى السلام، إنه سلام حقيقي لا سلام مزيف.

يدخل المسلم نسك الحج، يتعلم ويدرك من خلاله قيمة المسلم مهما كانت درجة حياته، فلا يتعدى على أحد، ولا يظلم أحد، ولا يبغي على أحد. يدرك المسلم من خلال هذا المؤتمر السنوي قيمته الحقيقية التي وضعه الله فيها فضلا عن قيمته الإنسانية كإنسان، فيتبيّن له زيف تجهيل الإعلام العالمي، ويتبين له كذب منظمات حقوق الإنسان التي لا تعنى إلا بالإنسان الغربي، أما الإنسان المسلم فحوادث التاريخ وأحداث الزمان كشفت عن مدى جرم هذه الدول التي تسمى بالعظمى والكبرى، وإلا فكيف يفسر ما تفعله دولة ما تسمى بإسرائيل في فلسطين اليوم، بل ما تفعله الصليبية الحاقدة اليوم في العراق؟! قصف للمدنيين ولمواقع سكنية ولأسر ونساء وشيوخ وأطفال، على مرأى ومسمع من العالم، أين السلام الذي يدعيه الغرب وتدعو له دولة إسرائيل؟! بل أين منظمات الرفق بالحيوان عن البهائم التي أهلكت في بلاد الرافدين وغيرها من البلاد إذا كان الإنسان ليس له قيمة في أجندة هذه المنظمات وهذه الدول والحكومات؟!

إن الوحشية والهمجية التي تمارس اليوم في العراق لا تقره شريعة ولا نظام؛ ولهذا فلا يتصور أمان ولا وئام ولا سلام في ظل هذه المنظمات وتحت هذه الأنظمة. إنّ كل عاقل ومنصف ـ فضلا عن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله ـ يدرك بأن السلام الحقيقي والتعاون على البر والتقوى لا ظل له في الواقع إلا في الإسلام وفي تاريخ الإسلام، أما غير المسلمين من شتى الأمم ومختلف الديانات فإن أقوالهم معسولة مسمومة، وأفعالهم في غاية الفحش والدناءة والفظاعة والبشاعة. فما أحوج البشرية في هذا العصر وهي تكتوي بلهيب الصراعات الدموية والنزاعات الوحشية، ما أحوجها إلى الدخول في الحج إلى بيت الله الحرام، لتتخلص نفوس أبنائها من الأنانية والبغضاء والكراهية والشحناء، وترتقي إلى أفق الإسلام، فتتعلم الحياة بسلام ووئام كما أراد الله لعباده المؤمنين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...



الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وسلاما وصلاة على النبي المصطفي والرسول المجتبى وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

أيها المسلمون، إن فريضةَ الحجّ فريضة عظمت في مناسكها، وجلّت في مظاهرها، وسمت في ثمارها. فريضة الحج عظيمةُ المنافع جمّة الآثار، تضمّنت من المنافعِ والمصالح ما لا يُحصيه المحصون، ولا يقدر على عدّه العادّون، انتظمت من المقاصد أسماها، ومن الحكم أعلاها، ومن المنافع أعظمَها وأزكاها، مقاصدُ تدور محاورها على تصحيح الاعتقاد والتعبّد، وعلى الدعوة لانتظام شملِ المسلمين ووحدة كلمتهم، وعلى التربية الإصلاحية للفرد والمجتمع، والتزكية السلوكيَّة للنفوس والقلوب والأرواح والأبدان. وبالجملة ففي الحج من المنافع التي لا تتناهى والمصالح التي لا تُجارَى ما شملَه عمومُ قول المولى جل وعلا: ليَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ [الحج:28].

تمر السنون وتتوالى القرون ووفود الله يتزايدون في لقاء إيمانيّ واجتماع سنوي، يقدمون من أماكن بعيدة وبلدان سحيقة ومن كل فج عميق، إلى واد غير ذي زرع، ليس فيه ما يستهوي النفوس، كل ذلك استجابة لله قائلين: "لبيك اللهم لبيك". والعبودية لله في الحج من أعظم ما يحصّله العبد من المنافع والفوائد، وكفى به شرفًا وفضلا.

أيها المسلمون، من معاني الحج العظيمة وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم، يجتمعون في مكان واحد، وفي زمن واحد، على تباعد ديارهم وتباين ألوانهم واختلاف ألسنتهم، تجردوا من ثياب الزينة، وطهّروا قلوبهم من الضغينة. ففي صعيد عرفات الأسود والأبيض الأحمر والأصفر جميعًا مسلمون، بربّ واحد يؤمنون، وببيت واحد يطوفون، ولكتاب واحد يقرؤون، ولرسول واحد يتّبعون، ولأعمال واحدة يؤدّون، فأي وحدة أعمق من هذه؟! كلهم في مظهر واحد، فما أعظم وأحوج المسلمين أن يحققوا وحدة المظهر والمخبر والظاهر والباطن. ومهما علت النداءات وتكررت الخطابات لتحقيق الوحدة الإسلامية فلن تتم دون أن نحقق مقوماتها ونوجد أركانها، ومنها تصحيح المنهج والمسار والسير على هدي سيد الأبرار وحب الصالحين الأخيار.

هذا واقع المسلمين لما تفرّقوا، تأمّل أحوالهم وقد تبدّد شملهم، تفرّق جمعهم، تباين أمرهم، اختلفت آراؤهم، تنافرت قلوبهم، تمزّقت ألفتهم، خمدت نارهم وركدت ريحهم، بل أصبحوا غثاء كغثاء السيل كما أخبر الصادق المصدوق . وأفظع من هذا وأعظم أن ترى الدماء الجارية من أجساد المسلمين الطاهرة بأيد مسلمة. ونتساءل بكل حيرة وعجب: أيقتل المسلم أخاه المسلم بلا سبب؟! هذا الذي كان يمتنع حال إحرامه عن قتل الصيد في الحرم، بل عن تنفيره وإثارته، وهناك تراه يسعى لقتل أخيه وإبادته، دون وازع من دينه، أو رادع من إيمانه وعبادته.

قلّب بصرك أنّى شئت تر العجب العجاب، ولن ينفع العويل ولا الصراخ والعتاب. ولقد بيّن الرسول حرمة دم المسلم للأمة، وذلك في خطبة حجة الوداع العظيمة فقال: ((فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) رواه البخاري، وقال رسول الله : ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) أخرجه الترمذي.

قدّر الله جل وعلا لهذه الأمة الخالدة أن تعيش في بيئات مختلفة جدًا، من لين وشدة، وحرارة وقسوة، ونشاط وركود، ومصارعة ومقاومة، وإغراءات مادية وسياسية، وتقدم في الحضارة وتوسع في المال والمادة، وضيق وضنك، وبذخ وترف، وعسر ويسر، وتسلط عدو قاهر وسلطان جائر، وكانت الأمة في حاجة دائمة إلى إشعال جذوة الإيمان وإعادة الوفاء والولاء في سائر الأجزاء والأعضاء، فكان الحج ربيعًا تزدهر فيه هذه الأمة، وتظهر بالمظهر اللائق بها. فكما أن الدولة تحتاج إلى تصفية بعد كلّ مدة ليتميّز الناصح من الغاش والمنقاد من المتمرد فكذلك الملة تحتاج إلى حج؛ ليتميز الموفق من المنافق، وليظهر دخول الناس في دين الله أفواجا.

وقضى الله جل وعلا أن لا يخلو الحج في أشدّ أيام هذه الأمة وأحلكها من الربانيين المخلصين ومن الصالحين المقبولين ومن الدعاة المرشدين ومن الداعين المبتهلين ومن الخاشعين المنيبين ومن العلماء الراسخين، الذين يملؤون جوّ الحج روحانيةً وخشوعًا، فترق القلوب القاسية، وتخشع النفوس العاصية، وتفيض العيون الجامدة، وتنزل رحمة الله، وتغشى السكينة، فينتفع الذين جاؤوا من كلّ صوب بعيد وفج عميق، ويأخذون زادًا من إيمان وحبًا وحماسةً وعلمًا وفقهًا، يعيشون عليه حياتهم، ويقاوِمون به كلّ ما يواجهونه من إغراء وتزيين، ويشاركهم في هذا الزاد إخوانهم الذين قعد بهم الفقر أو الضعف أو المرض أو العدو، فيتعلم الجاهل، ويقوى الضعيف، ويتحمس الخامد، وتكتسب الأمة بذلك قوّة جديدة على تأدية رسالتها، وتستأنف كفاحها من جديد.

والحج انتصارٌ للمناهج الصحيحة في الأمة على القوميات الوطنية والعنصرية اللسانية التي قد يصبح كثير من الشعوب الإسلامية فريستها تحت ضغط عوامل كثيرة، فتتجرّد جميع الشعوب عن جميع ملابسها وأزيائها الإقليمية التي يتعصب لها أقوام، وتظهر كلّها في مظهر واحد هو الإحرام، وفي مصطلح الحج والعمرة، حاسرةً رؤوسها، تهتف كلّها في لغة واحدة بتلبية رسول الله التي رواها الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)).

__________________

المناضل السليماني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-11-2010, 09:18 PM
  #6
المناضل السليماني
مشرف
المجلس الاسلامي
 الصورة الرمزية المناضل السليماني
تاريخ التسجيل: Oct 2006
المشاركات: 3,909
المناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond repute
افتراضي رد : ايه الخطيب المبارك اليك سلسة من الخطب

عشر ذي الحجة

الحمدُ لله الواحِدِ الأحَد، الفرد الصّمد، الذِي لم يلِد ولم يُولَد، ولم يكُن له كُفوًا أحَد، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبدُه ورسوله وخلِيله وخيرتُه من خَلقه، بلّغ الرِّسالة، وأدّى الأمانةَ، ونصحَ الأمّة، وجاهَد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آلهِ الطيّبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغرّ الميامين، وعلى التّابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].

معاشر المسلمين، إنكم لتلاحظون سراعَ كثير من الناس في أمور الدنيا، وتلاحظون حبهم لزهراتها وألوانها، وإنكم لتعجبون من ركضهم وراء مصالحهم ومنافعهم، في حين غفلتهم عن المنافع الباقية والكنوز النفيسة.

تحل علينا هذه الأيام، أيام مباركات وذخائر نفيسات وساعات فاضلات، أيام تضاعف فيها الأعمال وتزداد فيها الدرجات ويعظم فيها الثواب، إنها أيام عشر ذي الحجة التي أقسم الله تعالى بها تنويهًا بشأنها وإرشادًا لأهميتها: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر: 1، 2]، والتي قال عنها النبي كما في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر))، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)).

إن هذه الأيام الفاضلة تستدعينا للجدّ والاجتهاد، فاحرصوا ـ يا مسلمون ـ على استغلالها وعمارتها بالأعمال الصالحة، وإنه لمن المؤسف أن تدخل هذه الأيام والناس في غفلة فاكهون، لا في الخيرات يسارعون، ولا عن المعاصي يقلعون، قد أهمتهم الدنيا واجتاحتهم الغفلة واحتواهم الطمع.

إن الإنسان منا لينمّي ماله ولا ينمي عمله، يزيد في غفلته ولا يزيد في درجته، يسارع في الفاني ويبطئ في الباقي!

والنـاس هَمّهـم الحيـاةُ ولَم أرَ طولَ الحياة يزيد غيرَ خَبـالِ

وإذا افتقرتَ إلى الذخـائر لم تَجد ذخرًا يكون كصالِح الأعمالِ

إن هذه الأوقات ـ يا مسلمون ـ جزء من أعماركم، وضياعها ضياع لكم وزيادة في حسراتكم.

قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: "رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبا! إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار بالنوم، وهم على أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، فشبّهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجرى بهم، وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة الزاد والتأهب للرحيل، إلا أنهم يتفاوتون، وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته بما ينفق في بلد لإقامته. فالغافلون منهم يحملون ما اتفق، وربما فرحوا لا مع خير، فكم فيكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلسًا، فاللهَ اللهَ في مواسم العمر، والبدار البدار قبل الفوات، واستشهدوا العلم، واستدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا النفوس، واستظهروا بالزاد، فكأنه قد حدا الحادي فلم يُفهم صوته من وقع الندم".

إخوة الإسلام، إن أيام عشر ذي الحجة أيام العمل والجد والمسارعة، وهي أيام الفوز والسعادة والفلاح، فحافظوا عليها، واعمروها بطاعة الله تعالى.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "السعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه، بما فيها من وظائف والطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادةً، يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات". قال بكر بن عبد الله المزني رحمه الله: "ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي".

أيها الإخوة الكرام، يُستحب عمارة هذه العشر المباركة بالطاعات والأعمال الصالحة، ومن ذلك الصيام، فيسن صيام تسع ذي الحجة لأن النبي حضَّ على العمل الصالح فيها، والصيام من أفضل الأعمال، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: ((عليك بالصوم فإنه لا مثلَ له))، قال النووي رحمه الله: "صيامها مستحب استحبابًا شديدًا". وأما ما اشتهر عند العوام ولا سيما النساء من صيام ثلاث الحجة، ويعنون بها اليوم السابع والثامن والتاسع، فهذا التخصيص لا أصلَ له. وأما صوم يوم عرفة فهذا يتأكد صيامه لورود فضل خاص به كما في صحيح مسلم قال : ((يكفِّر السنة الماضية والسنة القابلة)).

ومن أعمال هذه العشر التكبير، فيسن فيها التكبير والتحميد والتهليل لحديث ابن عمر في المسند: ((ما من أيام أعظم ولا أحب فيهن العمل من هذه الأيام، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد))، ويستحب إظهار ذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، وصفة التكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وما شابهها من الصفات. قال في المغني: "قال القاضي: التكبير في الأضحى مطلق ومقيد، فالمقيد عقب الصلوات، والمطلق في كل حال في الأسواق وفي كل زمان".

والتكبير في هذه الأزمنة صار من السنن المهجورة، ولا سيما في أول العشر، فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به في مواضعه إحياء للسنة وتذكيرًا للغافلين، وقد ثبت في صحيح البخاري معلقًا بصيغة الجزم عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبّران، ويكبر الناس بتكبيرهما.

ومن أعمال العشر أداء الحج والعمرة، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).

ويستحب في هذه العشر الإكثار من الأعمال الصالحة مطلقًا كالصلاة والذكر وقراءة القرآن والدعاء والصدقة والبر والصلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن أعمال العشرة التقرب إلى الله بذبح الأضاحي، ولا ينبغي للمسلم أن يدعها مع سعته وقدرته.

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات...
اقول ماتسمعون واستغفر الله



الخطبة الثانية


الحمد الله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة الكرام، ومن الأعمال الصالحة التي يجب المبادرة بها في هذه العشر وفي كل زمان التوجه النصوح والرجوع إلى الله والإقلاع عن المعاصي والذنوب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا [التحريم: 8]، وقال تعالى: وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11]. والتوبة في هذه الأيام طريق للفوز والفلاح؛ لأنها من مواسم الخيرات، والنفوس فيها مقبلة وتباشر أعمالاً عظيمة كالصيام والتكبير والحج والأضحية.

فسارعوا ـ يا مسلمون ـ إلى التوبة الصادقة بالكف عن المحرمات والتحلل من المظالم ورد الحقوق والبعد عن الفواحش والمشاهد الخليعة، قال تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ [القصص: 67].

إن التوبة إلى الله شرف العبد وعزه وكرامته، بها يسعد ويغنم، وبها يفرح ويربح، وإنها لباب عظيم من أبواب السعادة، تُنال بها الحسنات، وتُحطّ بها السيئات، ويتنزل بها الرزق، ويدوم الحظ والتوفيق، ويزول الشقاء والحزن. روى مسلم في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)).

فسارع ـ أخي رعاك الله ـ إلى طاعة ربك بالتوبة والاستغفار وكثرة خصال الخير، فإنك في زمان المهلة، واحذر التسويف والتضييع، قال الرسول كما في صحيح مسلم: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب في اليوم مائة مرة))، وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال : ((للهُ أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرضٍ فلاة)).

فالله ـ يا مسلمون ـ يفرح بتوبة عباده، وبرجوعهم إليه، فسارعوا في التوبة واغتنموا الزمان، واحذروا الغفلة والتأخير.

فيا من فكر في الحياة وتأمّل أحوال الناس وشاهد مصارعهم وشيع جنائزهم وعاش أفراحهم وأحزانهم، إلى متى تدخر التوبة؟! وإلى متى وأنت غافل عن الطاعة؟! وإلى متى وأنت في وضع غريب؛ تسارع في المعصية وتقهر في الطاعة ولا تحدث لله توبة؟! لقد سمعت المواعظ وتلوت القرآن، ورأيت هادم اللذات، فلِمَ تتقاعس عن إجابة الدعوة ولا تلبي النداء والخطاب؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التحريم: 8].

يا مسلمون، إن وراءنا يوما ثقيلا عسيرا، فتزودوا لذلك اليوم وخذوا له أهبته، فليس هناك إلا فريقان: فريق السعادة وفريق الشقاء، يسعد أناس ويشقى آخرون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].

__________________

المناضل السليماني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 16-12-2010, 08:09 AM
  #7
المناضل السليماني
مشرف
المجلس الاسلامي
 الصورة الرمزية المناضل السليماني
تاريخ التسجيل: Oct 2006
المشاركات: 3,909
المناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond repute
افتراضي رد : ايه الخطيب المبارك اليك سلسة من الخطب

شهر الله المحرم ويوم عاشوراء
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلاهادي له واشهد ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله ثم اما بعد
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل

الله عز وجل يذكر كثيرا من القصص في القرآن الكريم ليست للتسلية ولكنه للعبرة والعظة
يقول الله تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثًا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه ويقول الله عز وجل: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين إن إهلاك الظالمين نعمة من نعم الله تبارك وتعالى ينبغي لعباده المؤمنين أن يشكروا الله تعالى على هذه النعمة, ونحن مقبلون على يوم من هذا الشهر الحرام يوم عظيم نجى الله فيه فريقًا من المؤمنين وأنجاهم من الظالمين, فبدأ المؤمنون يشكرون الله عز وجل من ذلك الزمان على هذه النعمة التي أنعمها الله عز وجل على الثلة المؤمنة, وذلك أن فرعون لما بغى في الأرض وعلا وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يستضعف بني إسرائيل وهم الشعب الذين هم من سلالة يعقوب بن إسحاق بن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام, جعل أهلها شيعًا يستضعفهم في الأرض, فأذلهم وسخرهم لمهن رخيصة, ولمّا رأى رؤيا ـ كما قال المفسرون ـ رأى رؤيا أنه من بني إسرائيل سيخرج رجل ويورثه الله عز وجل مكان فرعون, أخذ يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم كما قال الله جل وعلا: جعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم فكان في ذلك مسرفًا.
فبعث الله عز وجل موسى عليه السلام, وضعته الأم فأشفقت عليه, فأوحى الله عز وجل إليها أن اجعليه في التابوت ثم ألقيه في اليم, فذهب به اليم إلى قصر فرعون فألقى الله محبته في قلب امرأة فرعون فأحبته حبًا شديدًا فقالت: قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا .
وسخر الله عز وجل له ذلك الظالم لكي يتبناه فرُبيّ في بيته, فكان يركب ما يركب فرعون ويلبس مما يلبس, بعد أن بلغ أشده واستوى آتاه الله ـ وهو في طريقه إلى مصر من مدين ـ النبوة فأوحى الله عز وجل إليه بالرسالة وأمره أن يذهب إلى فرعون لكي يذكره لعله يتذكر أو يخشى, يتذكر فيحذر من عقاب الله تعالى, فيخشى: فيورثه خشية وطاعة وإخباتًا لله عز وجل, فقال له الله عز وجل: فقولا له قولاً لينًا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى .
فأتاه موسى عليه السلام وأخوه هارون فقالا له قولاً لينًا, فأبى واستكبر وعاند, ووسم موسى عليه السلام بالسحر والشعوذة, وأمر السحرة أن يلتقوا معه في يوم الزينة فنصر الله عز وجل موسى عليه السلام وسجد السحرة لرب هارون وموسى, وأنزل الله عز وجل على يد موسى الآيات البينات وحذر موسى فرعون من مغبة ما هو فيه وقومه, فقال فيهم الله عز وجل وعنهم: فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قومًا مجرمين .
بعد ذلك أوحى الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام بأن يخرج بني إسرائيل من أرض مصر في ليلة كما قال الله عز وجل ـ في سورة الشعراء ـ: وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون وفرعون علم بخروج بني إسرائيل خلسة فأرسل في المدائن حاشرين, أرسل في مدائن مملكته حاشرين للناس والجنود ولماذا يحشرون عددًا كبيرًا وفيهم رجل يزعم بأنه إله؟ إذ قال أنا ربكم الأعلى, فقال معللاً: إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون قالها معللاً: أي ما حشدنا هذا العدد وما جمعنا هذا الجمع إلا لأنهم قد أبلغونا مبلغًا كبيرًا من الغيظ وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميعٌ حاذرون أي كنا على حذر مما يفعلون, فأخرجهم الله عز وجل مما كانوا فيه, فخرجوا في وقت الإشراق.
قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ في تفسيره لسعيد بن جبير في قوله تعالى: وفتناك فتونًا ـ في قصة الفتون ـ القصة موقوفة عليه رضي الله عنه كما قال ذلك ابن كثير ونقله عن أبي الحجاج المزي رحمهما الله تعالى ـ قال ابن عباس: فأوحى الله عز وجل إلى موسى أن يخرج بقومه ليلاً, فلما أصبح فرعون أرسل في المدائن حاشرين, فجمع الجنود فخرجوا إلى موسى وقومه, فجاء موسى عليه السلام والبحر من أمامه فأدركه فرعون بجنوده فلما رأى قوم موسى هذا قالوا: إنا لمدركون, قالوا: يا موسى إنّا لمدركون؛ البحر من أمامهم وفرعون من خلفهم, إنا لمدركون أي سيدركنا فرعون وذلك بعد أن تراءى الجمعان كما قال الله عز وجل: فلما تراءى الجمعان جمع موسى وجمع فرعون وجنوده, فلما تراءى الجمعان , أي رأى بعضهما بعضًا قال أصحاب موسى إنا لمدركون فقال موسى عليه السلام: كلا بكل توكيد وثقة "كلا" لسنا بمدركين, "كلا" لسنا بمفتنين, "كلا" لسنا بمن سيكون في أيدي هؤلاء الظالمين.
ولماذا قال: كلا بهذه الثقة وبهذه الطمأنينة؟ إن العلة في ذلك إن معي ربي سيهدين فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه: فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم إن السنة التي أجراها الله عز وجل للماء لكي تسير على اليابسة في لحظة من اللحظات, بقدرته تعالى يتحول هذا الماء ليصبح كالجبل الشامخ, وتصبح الأرض التي كان فيها الماء طريقًا يبسًا وكأن الماء ما مسته يومًا وفي قوله تعالى: فأوحينا إلى موسى فيه أن هذا الأمر كان عند لقائه بفرعون.
وفي حديث الفتون, قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وكان الله عز وجل قد أوحى إلى موسى عليه السلام ـ أي قبل أن يخرج ببني إسرائيل ـ أن اضرب بعصاك البحر وقال للبحر إذا ضربك عبدي موسى فانفلق فرقتين, فلما قدم موسى إلى البحر نسي أن يضرب بعصاه البحر فقال له أصحابه: إن الله عز وجل لم يكذب ولم تكذب, فقال موسى: إن الله وعدني أني إذا أتيت البحر انفلق فرقتين ثم تذكر عليه السلام أمر الله عز وجل إياه بضرب البحر بالعصا, فضربه فانفلق فرقتين" هذا ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه.
ولما رأى فرعون ذلك الأمر دخل بجنوده في الطريق اليبس بعد أن دخل موسى وقومه, فلما اجتازوا البحر وأصبح قوم فرعون في سواء الطريق اليبس أطبق الله تعالى عليهم البحر وأعاد سنة الماء في ذلك للماء فأغرقهم الله تعالى في ذلك المكان, فقال الله عز وجل عنه ـ أي عن موسى ـ: ثم أزلفنا الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين إن في هذا الحدث الذي حدث لآية على مر القرون وإن قوم موسى طلبوا من موسى أن يريهم فرعون فأخرجه الله عز وجل فقال سبحانه وتعالى: فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون , ففي هذا الحدث آية على مر القرون ولكن أكثرهم لا يعلمون؛ ولهذا الله عز وجل قال: إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الحكيم وكانت هي آخر خرجة من خرجات هذا الظالم من بلده, قال سبحانه وتعالى: فأخرجناهم من جنات وعيون وزروع ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل , وقال في سورة الدخان: فأخرجناهم من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قومًا آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين , وقال تعالى ممتنًا على بني إسرائيل: ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليًا من المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين .
فماذا كان موقف كليم الله موسى بن عمران من هذه النعمة؟ صام موسى عليه السلام هذا اليوم شكرًا لله تعالى في العاشر من محرم, صامه شكرًا لله سبحانه وتعالى فيأتي الرسول حين يقدم المدينة كما ورد ذلك في الصحيحين في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله لمّا قدم المدينة وجد يهودًا تصوم عاشوراء فقال رسول الله : ((ما هذا؟)) فقالوا: هو يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل وأغرق فيه فرعون وقومه, فقال النبي : ((نحن أحق بموسى منكم)) فصامه وأمر بصيامه, وذلك قبل فرض رمضان, فلما فرض رمضان قال عليه الصلاة والسلام: ((من شاء صامه, ومن شاء تركه)).
وفي قوله : ((نحن أحق بموسى منكم)) كلام صائب صحيح؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام أقرب إلى موسى من هؤلاء اليهود الذين كفروا برسالة محمد وكذبوا رسولهم كذلك موسى, فالرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: ((نحن أحق بموسى منكم)) صدق؛ إذ هو عليه الصلاة والسلام رسول الله وكليمه كما أن موسى عليه السلام رسول الله عز وجل كليمه كذلك فهو عليه الصلاة والسلام يفرح لفرح موسى وصدق الله عز وجل: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين أي ينبغي أن يُحمد الله تعالى عند إهلاكه للظالمين فهي نعمة من نعمه تعالى.
فأسأل الله عز وجل أن ينفعنا بالقرآن العظيم وبسنة سيد المرسلين إنه هو القادر على ذلك, وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.




الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على البشير النذير المبعوث رحمة للعالمين من بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن لموسى عليه السلام فضيلة على أمة محمد عليه الصلاة والسلام, ولذلك لا تعجب أيضًا عند قوله : ((نحن أحق بموسى منكم)) فثبت في صحيح البخاري في كتاب الصلاة في قصة الإسراء الطويلة من حديث أبي بكر بن حزم, وأنس بن مالك رضي الله عنهما أن الرسول قال في قصة الإسراء: ((ففرض الله عز وجل على أمتي خمسين صلاة فنزلت على موسى عليه السلام فقال: ما فرض الله تعالى عليك؟ فقلت: خمسون صلاة, فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف, فإن أمتك لا تطيق, قال: فرجعت إلى ربي فسألته فأنزل شطرها فرجعت إلى موسى فقال: ما فعل؟ قال: أنزل شطرها ـ أي أنزل الله شطرها فجعلها خمسًا وعشرين صلاة ـ فقال له موسى: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ـ رأفةً على أمة محمد عليه الصلاة والسلام فإنه جَرّب بني إسرائيل ووجد بأنهم لم يتحملوا ما أوجب الله عليهم من التكاليف ـ فقال : ارجع, فرجع النبي فأنزل الله عز وجل شطرها, فرجع إلى موسى, فقال: ارجع فإن أمتك لا تطيق, فرجع مرة أخرى, فقال الله عز وجل: خمس وهي خمسون ـ أي جعلتها خمسًا, وفي أجرها بخمسين صلاة ـ لا يبدل القول لدي, فرجع النبي إلى موسى بن عمران فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف, فقال النبي : ((استحييت من ربي)).
هكذا فإن الله سبحانه وتعالى قد خفف على أمة محمد عدد الصلوات وجعل موسى عليه السلام سببًا في ذلك, فله أيضًا فضل على أمة النبي عليه الصلاة والسلام, فصدق النبي عليه الصلاة والسلام إذ قال: ((نحق أحق بموسى منكم)) وهكذا المسلمون كالجسد الواحد ينظر بعضهم إلى آلام بعض, إذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى, فالرسول يفرح لفرح موسى فيصوم يوم عاشوراء.
صلوا وسلموا على من امركم الله بالصلاة والسلام على من امركم الله بالصلاة والسلام عليه
الدعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء
__________________

المناضل السليماني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 24-12-2010, 07:49 AM
  #8
المناضل السليماني
مشرف
المجلس الاسلامي
 الصورة الرمزية المناضل السليماني
تاريخ التسجيل: Oct 2006
المشاركات: 3,909
المناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond reputeالمناضل السليماني has a reputation beyond repute
افتراضي رد : ايه الخطيب المبارك اليك سلسة من الخطب

وقفات مع عمر الفاروق

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والحمد لله على ما قدره بحكمته من دقيق الأمر وجله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.

أما بعد: فاوصيكم ونفسي بتقوى الله

عباد الله، إن لهذه الأمة سلفاً، هم أبر الناس قلوباً، وأحسنهم إيماناً، وأقلهم تكلفاً، سيرة كل عظيم منهم عظة وعبرة، وفي اقتفاء أثر أحدهم هداية، وفي الحياد عن طريقهم غواية.

وإننا اليوم على موعد مع واحد من هؤلاء العظماء.

رجل عاش الجاهلية والإسلام، رجل غليظ شديد ولكن على الباطل، ورقيق حليم رحيم بالمؤمنين، ولي من أولياء الله، خليفة من خلفاء المسلمين، مرقع الثياب ولكن راسخ الإيمان، تولى أمر المسلمين فطوى فراشه، وقال: (إن نمت بالنهار ضاعت، رعيتي وإن نمت بالليل ضاعت نفسي)، إنه شهيد المحراب، إنه من قتل وهو يصلي على يد من لم يسجد لله سجدة، أظنكم قد عرفتموه، إنه أبو حفص، إنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وجمعني وإياكم في زمرته.

فلنستشعر هذه الصور الجميلة في حياة عمر، فحياته كلها عبر ودروس.

الصورة الأولى:

وهو مولده في الإسلام رضي الله عنه، أسلم لما سمع طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىٰ تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق ٱلأرْضَ وَٱلسَّمَـٰوٰتِ ٱلْعُلَى ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ [طه:1-5]، فَسَرَتْ في قلبه، وحركت وجدانه، فتحول من حال إلى حال.

قد كنت أَعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها

قل للمـلوك تنحـوا عن مناصبكم فقـد أتـى آخذ الدنيا ومعطيها

الصورة الثانية:

الرسول عليه الصلاة والسلام يفسر ثلاث رؤى رآها في المنام، كلها لأبي حفص رضي الله عنه، وكلها صحيحة كالشمس.

الأولى: قال صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي، وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين)) أخرجه البخاري ومسلم.

الثانية: عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينا أنا نائم، أتيت بقدح لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أولته يا رسول الله، قال: العلم)) رواه البخاري ومسلم.

الثالثة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: ((بينا أنا نائم، رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غَيْرَتَهُ، فوليت مدبراً))، فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله) أخرجه البخاري.

الصورة الثالثة:

حل بأبي بكر رضي الله عنه السكرات فيكتب لعمر: (بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر إلى عمر بن الخطاب، وأنا في أول أيام الآخرة وآخر أيام الدنيا.

أما بعد: فيا عمر بن الخطاب، قد وليتك أمر أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فإن أصلحت وعدلت فهذا ظني فيك، وإن اتبعت هواك فالله المطلع على السرائر، وما أنا على صحبة الناس بحريص.

يا عمر، اتق الله لا يصرعَنّك الله مصرعاً كمصرعي. والسلام).

وتولى عمر وألقى خطبة عظيمة، بين فيها سياسته، وأوضح فيها واجباته تجاه الأمة، وسار في الناس سيرة عظيمة.

كتب عنه الفضلاء، وحكى عنه العلماء، وتدارس سيرته الأذكياء.

الصورة الرابعة:

عمر رجل العَسّه[1] الأول، ينام الناس في عاصمة الخلافة ولا ينام، يشبع الناس ولا يشبع، يرتاح الناس ولا يرتاح.

كان رضي الله عنه إذا هدأت العيون وتلألأت النجوم، يأخذ دِرَّتَه[2] ويجوب سكك المدينة؛ عله يجد ضعيفاً يساعده أو فقيراً يعطيه أو مجرماً يؤدبه.

وبينما هو يمشي في ليلة من الليالي، إذْ بامرأة في جوف دار لها وحولها صبية يبكون، وإذا قِدْرٌ على النار قد ملأته، فدنا عمر من الباب فقال: أمةَ الله، ما بكاء هؤلاء الصبيان؟ قالت: بكاؤهم من الجوع. قال: فما هذا القِدر الذي على النار؟ قالت: ما أعللهم به حتى يناموا وأوهمهم أن فيه شيئاً. فبكى عمر ثم جاء إلى دار الصدقة، وأخذ غرارة[3] وجعل فيها شيئاً من دقيق وشحم وسمن وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغرارة ثم قال لمولاه: يا أسلم احمل عليّ، قال: يا أمير المؤمنين، أنا أحمله عنك. قال: لا أم لك يا أسلم، أنا أحمله لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة. فحمله حتى أتي به منزل المرأة، فأخذ القدر، فجعل فيه دقيقاً وشيئاً من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده، وينفخ تحت القدر، قال أسلم: فرأيت الدخان يخرج من خلل لحيته حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده، ويطعمهم حتى شبعوا.

أين أصحاب المسؤوليات؟ أين الرعاة من هذه الأخلاق العظيمة؟

الصورة الخامسة:

كان عمرو بن العاص رضي الله عنه والياً على مصر في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، فقال عمر: عذت معاذاً، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين.

فكتب عمر رضي الله عنه إلى عمرو رضي الله عنه يأمره بالقدوم ويقدَم بابنه معه، فقدم فقال عمر: أين المصري؟ ثم قال: خذ السوط، فاضرب. فجعل المصري يضرب ابن عمرو بالسوط، ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين.

قال الراوي: فضرب، والله فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه.

ثم قال عمر لعمرو رضي الله عنهما: مذ كم تعبَّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم ولم يأتني.

الصورة السادسة:

وتستمر مسيرة عمر رضي الله عنه، ويدخل عام الرمادة سنة ثماني عشرة للهجرة، فيقضي على الأخضر واليابس، يموت الناس جوعاً، فحلف عمر لا يأكل سميناً حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وضرب لنفسه خيمة مع المسلمين حتى يباشر بنفسه توزيع الطعام على الناس، وكان رضي الله عنه يبكي ويقول: آلله يا عمر كم قتلت من نفس!

ويقف على المنبر يوم الجمعة ببرده المرقع، ووالله لو أراد أن يبني بيته من الذهب الخالص لاستطاع، ولو أراد أن يمشي من بيته إلى المسجد على الحرير والاستبرق لاستطاع، ولكن يقف أثناء الخطبة، فيقرقر بطنه وأمعاؤه تلتهب من الجوع، فيقول لبطنه: قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين.

الصورة السابعة:

حج عمر رضي الله عنه بالمسلمين آخر حجة له، ووقف يوم عرفة، فخطب الناس، ثم استدعى أمراء الأقاليم وحاسبهم جميعاً أمام الناس واقتص للناس منهم، وبعد أن انتهى ذهب ليرمي الجمرات فرماه أحد الحجاج بحصاة في رأسه فسال دمه، فقال عمر: هذا قتلي. ـ يعني أنني سوف أقتل ـ.

قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه: لما صدر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من منى أناخ بالأبطح ثم كوم كومة من بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى ثم مد يديه إلى المساء، فقال: اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرِّط.

قال سعيد: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر رضي الله عنه، رجع إلى المدينة وهو يتمنى الشهادة، قالت له حفصة ابنته: يا أبتِ، موت في سبيل الله وقتل في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن من أراد أن يقتل فليذهب إلى الثغور. فيجيب عمر: سألت ربي وأرجو أن يلبي لي ربي ما سألت.

الصورة الأخيرة:

وصل عمر إلى المدينة ورأى في المنام أن ديكاً ينقره نقرتين أو ثلاث فعبروا له الرؤيا فقالوا: يقتلك رجل من العجم، فقام وخطب الناس، وقدم نفسه للمحاسبة وجسمه للقصاص وماله للمصادرة، وأعلن في الناس: إن كان ضيع أحداً أو ظلم أحداً أو سفك دم أحد فهذا جسمه فليقتص منه، فلما فعل ذلك ارتج المسجد بالبكاء، وأحس المسلمون أنه يودعهم ثم نزل من على المنبر واستودع الله الأمة، وكانت هذه هي آخر جمعة يلتقي فيها أمير المؤمنين بأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

صلى عمر الفجر في أحد الأيام، وفي أثناء الصلاة أتاه أبو لؤلؤة المجوسي الذي ما سجد لله سجدة، فكانت نهاية هذا الطود الشامخ على يديه.

مولى المغيرة لاجادتْك غادية من رحمة الله ما جادت غواديها[4]

مزّقت منه أديمـاً حَشْـوُهُ هِمَمٌ فـي ذمّة الله عاليهـا وماضيها[5]

فما راع الناس إلا صوت عبد الرحمن بن عوف يكمل بهم الصلاة خفيفة، وفزع الناس أين صوت عمر؟ أين صوت الخليفة؟ أين صوت الحبيب؟ أين العادل؟ أصبح في سكرات الموت يسأل وهو في السكرات: من قتلني؟ قالوا: أبو لؤلؤة المجوسي، قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجل ما سجد لله سجدة.

وحملوه إلى البيت وأحضروا له وسادة فنزعها وقال: ضعوا رأسي على التراب، لعل الله أن يرحمني، وأخذ يبكي ويقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه.

ويدخل عليه أحد الشباب يعوده فيرى طول إزاره، فيقول له: ارفع إزارك، فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك.

يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر حتى وهو بهذه الحال.

استأذن عائشةَ أن يدفن مع صاحبيه، فقالت له: لقد هيأت هذا المكان لنفسي، لكن والله لأوثرن عمر به، ادفنوه مع صاحبيه.

أيا عمر الفاروق هل لـك عـودة فإن جيـوش الروم تنهـى وتأمر

رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا

نساء فلسـطينٍ تكحلـن بالأسـى وفي بيت لحم قاصـرات وقصّر

وليمون (يافا) يابس في حقـولـه وهل شجر في فيضه الظلم يثمر

اللهم ارض عن عمر، والعن من لعنه، اللهم ألحقنا بالصالحين، واحشرنا في زمرة المتقين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـٰهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ [الفتح:29].

اقول ماتسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه

------------------------------------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على ن لانبي بعده

أما بعد:

فيا أيها الناس، هذه شخصية من شخصيات العالم الإسلامي التي قدمها محمد عليه الصلاة والسلام إلى البشرية، هذا خليفة راشد، هذا إمام عادل.

يقول عليٌّ وعمر يكفن قبل أن يصلى عليه: (والله ما أريد أن ألقى الله بعمل رجل إلا بعمل رجل مثلك).

عباد الله، إن هذه السيرة ينبغي أن نتذاكرها بين الفينة والفينة، ونغرسها في نفوسنا، ونجعلها مثلاً أعلى، يحتذى ويقتدى بها.

لا أن نظهرها لأولادنا من خلال تلك المسلسلات التي يمثلها أبعد الناس عن منهج عمر، رجل تلطخ بالزنا والفجور ويمثل شخصية صحابي من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الدعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــاء

__________________

المناضل السليماني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 12-02-2011, 11:15 AM
  #9
شاهد على العصر
عضو
تاريخ التسجيل: Feb 2011
المشاركات: 75
شاهد على العصر is on a distinguished road
افتراضي رد : ايه الخطيب المبارك اليك سلسة من الخطب

جزاك الله خير

واقترح عليك ان تجمعها في ملف وورد لكي يستفيد منها الخطباء
شاهد على العصر غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 21-03-2011, 12:45 AM
  #10
حمدان المري
عضو
تاريخ التسجيل: Mar 2011
المشاركات: 48
حمدان المري is on a distinguished road
افتراضي رد : ايه الخطيب المبارك اليك سلسة من الخطب

جزاك الله خيرااا
حمدان المري غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
أذكار, أدعية, خطب, خطبة الجمعة, صلاة الجمعة, إسلاميات


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
من يوقف هدردماءاهل السنه يامسلمين في ايران المجوسيه الرافضية الصفوية ؟؟ ابومحمدالقحطاني فضائح وجرائم الروافض ضد أهل السنة 10 29-04-2015 06:44 PM
إبن سبأ اليهودي مؤسس الديانة الشيعية ابو عائشة الطائي فضائح وجرائم الروافض ضد أهل السنة 2 20-12-2009 10:31 PM
غزوات حدثت في شهر الانتصارات في رمضان المناضل السليماني مجلس الإسلام والحياة 5 30-08-2009 06:27 AM
أرقـــــــام وإيمـــيــلاتــ الدكـــتـــور جــــــــابـــــر القحطاني وبعض الوصفاتـــ سعيد الجهيمي عالم الصحه والغذاء 12 20-03-2008 12:02 PM
فتاوى السحر والمس والعين مفرغا من شريط للعلامة ابن باز : اعداد بعض طلبة العلم ابو اسامة مجلس الإسلام والحياة 11 26-05-2007 01:52 PM


الساعة الآن 12:29 PM

سناب المشاهير