أحد أسباب الأرهـــــــــــــــــاب ..
التلوث الفكري
إذا كنا كثيراً ما نتحدث عن تلوث البيئة وخطره على الكون والإنسانية فإن الحديث عن"التلوث الفكري"أهم مائة مرة عن تلوث الهواء والماء، ذلك لأن الفكرهو جوهر حياة الناس وبه يستطيعون التعامل مع الماء والهواء،فإن وصل إليه التلوث هلك الحرث والنسل وعم البلاء في الأنفس والأموال،وتطايرت شراراته لتلتهم الأخضر واليابس وانتشر الفساد ليقضي على الطارف والتليد، فما دام العقل ملوثاً؛ فكيف تقوم للحياة أسس؟وكيف يهنأ للعيش طرف؟!.
والأمة الإسلامية لا تستطيع أن تعيش في جو فكري ملوث لأنها أمة نظيفة طاهرة لا مجال فيها للأدناس. ولا شك أن الرجل الملوث أو الفكر الملوث هو سبب الداء وموطن الضعف في هذه الأمة، لأنه واحد منها ويتكلم بلسانها ويلبس لباسها فيعده الناس السذج منها بينما هو بعيد عن روح أمته وبعيد عن تصور آلامها وآمالها، بل هو الذي يئد آمالها وهي ما تزال في المهد، وطالما رزئت الأمة الإسلامية بأمثال هؤلاء فأحالوها ضعيفة القوى منهكة القدرات لا تستطيع مواجهة مشكلاتها وأزماتها، وأنّى لها أن تنهض من كبوتها وسباتها وأن تفيق من رقدتها، بينما هي تتنفس من جو مفعم بالتلوث ، فلا يزيد من الكبوة إلا امتداداً ولا من الرقدة إلا عمقاً، وأنّى لها كذلك أن تفكر بعقل مفتوح وبصير بما يحقق لها الرفعة والسمو من مجالات ضعفها وهي تستقي أفكارها ممن أصابته اللوثة إلى لب عقله وتفكيره!!. إن على الأمة المسلمة وهي تريد أن تقضي على "التلوث الفكري"أن تعلم أولاً أسباب ذلك، وأهم أسبابه:ـ
عدم الاحتكام إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن العقل إذا أطلق لنفسه العنان ولم يكن له مرجع يرجع إليه، وتعدى الحدود التي لا يجوز له تجاوزها ونصب من نفسه قاضياً على أحوال الناس وشؤونهم، فإن فيروس التلوث قد أصابه في أخطر قضية من قضايا الإسلام، والتي بإصابتها يصاب الدين كله ويرزأ المسلمون بسببه، وما يزال ذلك العفن ينتقل إليه من طرف إلى طرف حتى يكون كله عفونة ونتناً، فلا مكان له بين الأحياء إنما مكانه أن يدس تحت الأرض ويحثى عليه التراب حثواً.
وقلنا بأن هذه القضية هي أخطر قضايا الإسلام لأنها تمس أخص خصائص الألوهية، فالله تعالى وحده هو المتصرف في هذا الكون، وهو وحده الذي بيده الملك والقهر، وهو وحده سبحانه يصرف الناس وشؤونهم، فلقد أرسل الرسل وأنزل الكتب ليتبين للناس ما يأتون وما يذرون وليكون لهم مرجع معصوم يرجعون إليه في كل ما يشكل عليهم، والله تعالى يقول} وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا { ويقول: }فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما { ويقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:} وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك {وغيرها من الآيات كثير.إن العقل البشري مهما ترقى في مدارج الكمال فإن له مكاناً يتوقف عنده ولا يستطيع تجاوزه،ومهما حاول فإنه لن يأتي إلا بأمور تعود عليه بالضرر وتثقل كاهله بالهموم والمشكلات والأزمات،لذلك لا مناص له من أن يرجع إلى المرجع المعصوم الذي}لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد {والبشرية قد علمت طوال زمنها الممتد، بأنها قد عاشت أسوأ أحوالها عندما تخلفت عن شرع الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى إليهم، وأنها قد عاشت أحسن الأحوال وأفضلها عندما انقادت واحتكمت إلى شرع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والبشرية اليوم بحاجة إلى تذكيرها بهذا المبدأ العظيم وتعليمها بأنها لن تعيش حياة إنسانية آمنة إلا تحت ظلال شرع خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما هذه الكوارث التي تحل بها والأزمات التي تصيبها والمشكلات التي تحدث لها وألوان الخسف والهلاك التي تنتابها إلا بسبب من نفسها؛ وهو عدم استسلامها لدين الله تعالى وحده؛ فالله سبحانه يقول}ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون {ويقول} وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ً{ويقول:}من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا { .
وهكذا فعندما لا يستسلم العقل إلى أحكام خالقه ومبدئه فإنه يتخبط تخبط عشواء ويمشي على غير هدى ويصاب بالتلوث الفكري في أخطر المجالات وأدقها.
ومن أسباب ذلك التلوث أيضاً؛ محاولة ليّ أعناق النصوص الشرعية وإخضاعها لهوى العقل البشري، وهذه اللوثة قد أصابت قطاعاً كبيراً من المسلمين فصار الدين المقبول عندهم ما قبلته عقولهم وهذا السبب لا يقل خطرا عن السبب السابق، فكلاهما مجانب للحق وكلاهما مخاصم للعدل وبعيد عنه.
ولا بد أن يعلم المسلم أن النصوص الشرعية القطعية لا مجال لأعمال العقل فيها، بل يجب فيها التسليم المطلق والإذعان الكامل والطاعة التامة لأحكامها، لأنها نصوص قطعية ولا سبيل إلى الجدال والنقاش حولها، وفي هذا المجال -مجال القطيعات- لا يصح الاجتهاد بل يحرم ويأثم فاعله.
أما النصوص الظنية فإن للاجتهاد مجالاً واسعاً فيها، ولكنه لا بد أن يكون من أصحابه وعلى حسب الشروط التي ذكرها علماء الإسلام، حفاظاً على الدين من التميع وحماية له من الدخيل، وفوق ذلك كله يجب أن يكون الاجتهاد وفق القواعد المتعارف عليها فليس كل من ادعى الاجتهاد يسلم له في دعواه.
ولا ريب أن الإسلام قد فتح الآفاق للعقل وحثه على الإبداع وتقديم الخير للبشرية، ولم يحجر عليه الفكر والتفكر، كما فعلت بعض النظم في حقبة من التاريخ، حينما حجرت على العقول الفكر وحرمت أعماله وأعدم العلماء وعاش الناس في ظلام الجهل، وأدى إلى تطورات عكسية مؤسفة ما يزال أثرها باقيا بل امتد ليصيب فئات من المجتمع الإسلامي، وذلك بسبب التبعية والعمى عندما صار المسلم ينظر إلى إسلامه على أنه "رجعية" و"تخلف" وأن الجاهلية أفضل من الإسلام، وهذا الحال الذي انحدر فيه المسلمون أخبر عنه النبي صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) قالوا: (أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟) قال: ((بل أنتم يومئذ كثير؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله مهابتكم من صدور أعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوهن)) قالوا: (وما الوهن يا رسول الله؟) قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) .
لقد كان المسلم قوياً عندما كان بدينه وعقيدته، وصار ضعيفاً عندما ضعفت صلته بدينه وعقيدته، وأنّ الضعف والترهل الذي يصيب المسلمين في فترات بعدهم عن الإسلام أمر بدهي لمن نظر في آيات الكتاب العزيز، والتي فيها أن الإنسان قوي بالإسلام ضعيف بالجاهلية، وإن ظهرت الجاهلية في صورة القوى المسيطرة وانتفش ريشها لتخيف العالمين، فما هي إلا كالسراب الذي يخدع السذج من البشر حتى إذا جاءوه لم يجدوا شيئاً؛ والله تعالى يقول}كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزَّبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال {.
وقد تختفي معالم الحق في حين من الأحيان -بسبب من الناس- إلا أنه لا يمثل النهاية بل هو مرحلة في الطريق الطويل، وعندما يتهيأ أهل الحق ويستحقون تحمل التبعية يظهر النور جلياً في الآفاق بعد أن امتلأت القلوب بنور الحق واستسلمت العقول لداعي الهدى واستعدت أجسامهم لتحمل المشاق الصعاب.
وقد يمتد هذا الاختفاء مدة طويلة بحساب البشر كلما امتدت مرحلة التيه والتلوث الفكري الذي يعيشه الناس ولا يعود الأمر إلى نصابه إلا بعد غسيل كامل للقوى الفكرية لتعمل في مجالها الصحيح وتستطيع أن تفكر بمنطق سليم بعيدٍ عن ذل التبعية والهوان.
ومن صور التلوث الفكري؛ إضفاء نوع من القداسة على أفراد من البشر أو تصويرهم بنوع من العصمة تحفهم فلا يجوز مخالفتهم ولا التجرؤ عليهم ولو كان بالحق والعدل،وهذا التصور لا ينشأ إلا عند غياب مفهوم أنّ القداسة لا تكون إلا لمن شرفه الله تعالى وحده وقدسه، وأن العصمة لا تكون إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام أما غيرهم من البشر فكل منهم يخطئ ويصيب ولا بد أن يعامل على أساس هذا الميزان.
ولئن كان الإنسان يقدم للإسلام ما يقدمه من تضحيات جسام وبذل للنفس والمال، فإن ذلك لا يعفيه من أن يقال له إذا أخطأ أنك أخطأت أو يعترف بخطئه،وليس هناك فرد من الأفراد فوق مستوى النقد والنصيحة،ولئن كان عمر الفاروق رضي الله عنه -وهو من هو- قد قال
لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها) فإن غيره أحق أن يرضخ للنقد وأن يتقبل النصح من الأفراد الآخرين.
وإن هذه اللوثة لا يمكن أن تزول إلا إذا عملنا بقاعدة "يُعرف الرجال بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال" فالمعيار الذي يوزن به الرجال هو الحق، فمتى وافقوه كانوا على العين والرأس، وإن كانوا غير ذلك فلا بدا أن يعاملوا المعاملة التي يستحقون حتى يرجعوا إلى الحق ويلتزموا بالعدل، وهذه قاعدة مطردة في كل البشر إلا الذين عصمهم الله تعالى من الخطأ وهم الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام.
ولنعلم أننا نقع في خطأ آخر إذا عفونا عن فرد الخطأ لمجرد شرفه ومنزلته وبلائه، فالحق فوق الاعتبارات المادية والمعنوية، وهو أعز من أن يوصف به من لا يستحق؛ أو يناله من لا يسير على هداه.
وهذا الإمام محمد بن عبدالله الخليلي رحمه الله إمام عدل انتخب للإمامة للعظمى بعمان عام1338هـ توفي 1374هـ يقول: (واعلموا أنا بحمد الله لا نتبع إلا الحق ويجب علينا أن لا نقر سعوداً على الباطل ولا نخذله مع الحق) انظر: الفتح الجليل من أجوبة الإمام أبي خليل؛ طبع بالمطبعة العمومية بدمشق؛ ص49.
ويقول: (وهكذا نحن يجب علينا أن نرجع إلى الحق وكلنا غير معصوم) نفس المرجع؛ص.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.