في أحد ليالي الخريف الباردة والمعتمة كنت عائداً من زيارة أخي سيراً على الأقدام من شارع هارلي ستريت متجهاً إلى شقتنا في شارع الكوينز واي، حيث يبعد المستشفى عن السكن نحو ستة كيلومترات وكنت أقطع المسافة في أقل من 35 من السير الحثيث، وفي أحيان كثيرة كنت أستقل الباص اللندني الأحمر العتيق رقم 23 أو رقم 7 أو رقم 23، المتجه نحو الغرب بإتجاه السكن، وإن كنت مستعجلاً فأركب الأندرقرواند من أكسفورد سيركس واستخدام السنترال لاين ذي اللون الأحمر نحو محطة ماربل آرش ومن ثم محطة لانكستر قيت وأتوقف عند غايتي في محطة الكوينزواي.
شارع الكوينز واي
وشبكة قطارات الأندرقراوند (قطارات تسير تحت الأرض) هي اﻷقدم على مستوى العالم، إذا أستثنينا نفق الدمام بالطبع والذي يقال أنه دخل موسوعة جنيس للأرقام القياسية في مدة بنائه والله المستعان. ويعود تاريخ انشاء الأندرقراوند إلى عام 1863م، ومجموع طول الشبكة يصل 415 كم. وأهم المحطات الرئيسية هي محطة تشارينغ كروس (Charing Cross)، ومحطة أوستون (Euston)ومحطة كنغس كروس (King's Cross) ومحطة ليفربول ستريت (Liverpool Street) ، ومحطة بادينغتون (Paddington)، ومحطة سانت بانكراس (St Pancras)، ومحطة فيكتوريا (Victoria) ومحطة واترلو (Waterloo) ومحطة لندن بريدج (London Bridge)..
.
محطة بادنقتون في لندن
في تلك الليلة كنت قد عزمت الأمر على ركوب الأندرقراوند نظراً لبرودة الجو وكانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف مساءً، سرت حتى وصلت بوابة محطة أكسفورد سيركس، ولكن قبل أن أدخل إلى المحطة غيرت رأيي في آخر لحظة عند العتبة بالضبط، وقلت لنفسي سأسير على قدماي ما دمت ألبس ملابس شتوية مناسبة كي أعرج بطريقي إلى ادجور رود ومن ثم أقرر هل أركب الباص أم أكمل السير على قدماي من هناك. كنت رغم صغر سني أسير لوحدي في الليل وأحب أن أسلك الشوراع الجانبية المعتمة في طريق الذهاب أو العودة للمستشفى وأمر بجوار البارات والنوادي الليلية الخلفية والمواخير الخطرة ولم أفكر يوماً بأن ذلك ليس من الحكمة بشيء من ناحية الأمان، لم أشعر ولو مرة واحدة بالخوف من المكان الذي أنا فيه إلا عندما تواجدت في نوتنقهيل قيت، المنطقة التي يوجد بها منزل بوب مارلي، فتلك المنطقة موحشة بالفعل، وأجسام الزنوج لا يمكن التعامل معها عندما يحمى ا****************س، ولا يمكن كذلك الفرار منهم إذا لزمت الحاجة فهم مشهورين بالسرعة في العدو، فأين المفر؟؟. والشجاعة هذه أو الجرأة لم أكسبها من مدينة الدمام الوادعة، بل اكتسبتها من نشأتي المبكرة في مدينة الطايف، فقد كنا نسكن في حارة اسمها الريان وكان منزلنا مقابل المقبرة تماماً والتي كنا نلهو حولها في الليل ونتحدى بعضنا في الطرق على جدارها الطيني والاختفاء بين القبور أثناء اللعب ، وأهل الطايف شجعان بطبعهم وإن لم تكن ذئباً بينهم أكلتك الأسود هناك. كنت وكان غيري والذين لم تتجاوز أعمارهم الثالثة عشرة في الطايف نحمل السكاكين في طيات ملابسنا طوال الوقت، وإن غلبت الروم نحمل مفكات البراغي . أذكر مرة من المواقف الطريفة عندما كنا صغار في السن لم تكن البقالات تبيع الخبز كما هو حاصل الآن، بل يوجد "تماس" أي خباز في بعض الحارات يتجه له الناس في الصباح والمساء، أما وقت الظهيرة فالعادة تعمل ربة البيت الخبز الخاص بالمنزل. كان "التماس واسمه العم حاتم اليماني" يوجد في الحارة المقابلة لحارتنا وتسمى حارة الجعدة، وهم قبيلة كاملة وكريمة تسكن في حي واحد، وإذا تعاركوا مع أحد يخرج الرجال والنساء والأطفال عن بكرة أبيهم وتشتعل المعركة ويحمى ا****************س فويلاً لمن كان الضحية ، قد تحسبوني أبالغ في نقل الصورة، لكن والله هذا ما كان يحدث في تلك الأيام وقد لحقت على الكثير من تلك المضاربات واشتركت في اثنتين منها على ما أذكر،. كنا عندما نريد شراء الخبز من حارة الجعدة نذهب سوياً مع مجموعة من شباب الريان ومعنا المفكات والسكاكين وجنازير السياكل ونشتري الخبز بكل حذر وعادة يكون وقت شراء الخبز هدنة بين جميع الأطراف وتتوقف أعمال القصف ويقل خرق الهدنة إلا ما ندر ولم يفرض علينا حصار اقتصادي في أية لحظة من قبل قبيلة الجعدة لظروف انسانية على ما يبدو.
صورة قديمة لمدينة الطائف
في يوم من الأيام كان معي أخي الذي يصغرني سنا، وهو الآن تاجر كبير جداً في أمريكا يحصد ملايين الدولارات من عمله في مجال الإنشاءات في ولاية كلورادو وتعدت ثروته ثروت أبي في وقت قياسي، كنا عائدين متأخرين بعض الشيء صباح الجمعة فلاحظ أخي وجود بعض أطفال الجعدة مندسين خلف أحد السيارات فصاح بأعلى صوته "كمممممممممممين " فعدونا للمنطقة الخضراء لننفذ بجلودنا حتى أنا سبقنا ظلنا من سرعة العدو، وأنا أرفع سروالي من الخلف لأني ضعيف جداً وأخي يرفع سراوله من الأمام لأنه بدين بعض الشيء ، وعندما وصلنا لحدود المنطقة الآمنة شاهدنا المرحوم "غازي العشي" فسقط على ظهره من الضحك علينا وفضحنا في الحارة أمام أصدقائنا وقال "كان واحد يرفع سرواله من قدام والثاني من من ورا ومرعوبين وهم يجرون"، "غازي العشي" توفي لاحقاً في حادثة قصر أفراح الطايف الشهير الذي سقط على النساء عندما دخل لإنقاذ الأطفال والنساء وبعد أن أنقذ أكثر من عشرين نفس سقط عليه الجدار وتوفي رحمه الله . كذلك أذكر مرة تعاركت مع واحد اسمه "القرص" مشهور بالقوة والشجاعة والغباء بنفس الوقت، وهو من عائلة الحربي في حارة الريان، وهنالك أكثر من عائلة نسبها الحربي في حارتنا ، جميعهم يتحدثون اللهجة المصرية ، أزيك، أخبار الحقة ايه، يا راقل وإذا قعدت عندهم ساعة أو ساعتين وجيت ماشي يقولن لك "ما تشرب الشاي، الشاي ع النار (والنبي) ع النار" ، يعني كلام مصري مية في المية، بس أصلهم سعوديين عاشوا في مصر أيام العدم وعادوا للسعودية أيام الملك سعود. القرص هذا لم جيت أتخانق معاه طلعت المفك من جيبي و يازعط كنت ناوي أضربه على كتفه، قسم بالله يا جماعة الخير مسك المفك وبيد واحدة من غير ما يستخدم اليد الثانية كسر المفك بين أصابعة وقالي وش رايك الحين يا أبو ندم؟؟؟!!! ، والحمد لله قبل ما يهبدني بيديه الأخرى إلي مثل الصبة طلع أبوه من بيتهم وقال "تعال يا حمار يابن الحمار عامل راقل على عيل صغير ادخل قوى البيت يا ابن الك،،،،،،خخخ". القرص هذا لم يهجده أحد ويكسر عينه سوى ابن عمه عبد المنعم، إلي كان عنده سيارة كورلا غريبة صفراء تفحط من الكفرات الأمامية عكس جميع السيارات وفي البيبان الداخلية يعلق صور جميع الممثلات من فاتن حمامة وسميرة توفيق والهام يونس وشريفة فاضل.
وفي لندن لم أتعرض لمحاولة سرقة أو اعتداء رغم طيشي في السير في الأماكن الخلفية من الشوارع طوال السنة والنصف سوى مرة واحدة، فقد كنت قادماً من عند صديق في شارع اسمه موسكوس رود، يتفرع من عند محل البيتزا إلي في الكوينز واي، مقابل ماكدونالدز الآن (كان برقر كينق في السابق). كنت أسير من الاتجاه المعاكس لماكدونالدز، وخارج البار كان يقف شاب انجليزي أصلع الرأس وأبهص الوجه وأطول مني بقليل وعليه صحة ماشاء الله تبارك الله، سلم علي بلقافة وقال وين رايح، رديت عليه السلام وقلت مهو شغلك وين رايح، وعلى طول تحولت نظرته نحو جيب بنطلوني إلي فيه المحفظة، وقال تعطيني فلوس وإلا ما خليك تمشي من هنا، فلوسك أو حياتك!!!!، وبدون مقدمات أعطيته بقس في وجهه بدل المحفظة وجيت بعطيه بقس ثاني قبل أن أهرب من المكان أو يأتيه المدد من داخل البار، لكنه ترنح بسبب الضربة وبسبب إنه سكران طينة، وحطيت رجلي وما وقفت إلا لما وصلت عند أنوار المطاعم في الكوينز واي.
أعود لكم لحكاية الأندرقرواند في تلك الليلة، فلله الحمد لم أركبه وأكملت طريقي سيراً وأخذت عشاء من مطعم يوناني وأتذكر وجبة العشاء إلى الآن واسمها "كلفتكو". في اليوم التالي قرأت صحيفة الاستندارد، ويا للمفاجئة، فقد اشتعل حريق كبير ليلة البارحة في محطة الأندرقرواند في أكسفورد ستريت في الساعة التاسعة والنصف، وهو نفس الوقت الذي كنت أنوي ركوب الأندرقراوند فيه ومات في تلك الحادثة المأساوية عشرة أشخاص، وكان سبب الحريق هو عقب سجارة أحد الركاب كما بينت التحقيقات اللاحقة، لذلك منع في تلك السنة التدخين في القطارات الأرضية بسبب تلك الحادثة. حمدت الله أن نجاني من ركوب القطار في تلك الليلة المشؤومة وأطلعت أخي على الخبر في الصحيفة وأخبرته كيف أني غيرت رأيي في آخر لحظة وكيف نجاني الله بأن لا أكون معهم أثناء الحريق، فتعجب من ذلك وحمد الله وقال لي يجب أن تشكر الله وتتصدق فقد كتب لك عمر جديد، والإنسان لا يظمن متى يأتي الموت. ولكني وبرغم تقصيري كأي إنسان وسطي، أحس دوماً أن العناية الإلهية تحرسني كما حرستني في هذه المرة ومرات أكثر، ليس لكثرة طاعة والله المستعان ولكن لأمور أخرى الله وحده أعلم بها.
في الأيام التالية آثرت عدم ركوب القطار أو حتى الباص كذلك وكنت أعود للمنزل سيراً على الأقدام وهي الهواية التي أحبها كثيراً وأمنيتي التي تدور في رأسي منذ مدة أن أسير على قدماي من مدينة الخبر حتى أصل إلى لندن يوما ما. وفي أحد الأيام وأنا عائد للشقة من الشوارع الخلفية كالعادة مررت بشارع وقمور ستريت ثمً بورتمان سكوير وتجاوزت فندق تشرشل حتى وصلت لإدجورود، ولم يكن هنالك الكثير من العرب في لندن خاصة في فصل الخريف، وحتى المهاجرين لم يكونوا سوى أقلية قليلة لم تتوالد بعد ولم تكثر من الحرث والنسل، فكان وجود أي عربي يلفت النظر وإن كانت إمرأة عربية فهذه حكاية أخرى يطول شرحها!!، كانت لدي كأي سعودي فاضي ومشفوح رادار متقدم يكشف عن وجود أي فتاة خليجية تسبح في مجاله الجوي ويفرزها عن غيرها حتى لو كانت تسير وسط مبنى الأمم المتحدة . فعندما دخلت شارع ادجورود وقلت يا هادي لاحظت في الجهة المقابلة على بعد خمسمائة متر تقريبا فتاة كعود الخيزرانة تمشي الهوينا بعبائتها المطرزة نحو محل خضار هندي، فاشتغلت جميع أجهزة الإستشعار عن بعد وعن قرب وتوجهت نحو المحل وتظاهرت بأني أنوي شراء كيلو كوسة . أقتربت منها وكانت مشغولة بشراء بعض الحلويات، فلاحظتني وعرفت أني خليجي، فمشت أمامي بدلال وغنج واضح فرميت أبو الكوسة في الفريزر وقلت يا عمي هو أنا بتاع كوسة ، وسلمت عليها وردت بخجل وبصوت كامل الأنوثة، بلعت ريقي وقلت منورة والله لندن كيفك، أنا أخوك نديم من السعودية، ممكن نتعرف عليك،،، صمتت بعض الشيء ثم قالت بهدوء اسمي "شفاء وأنا من دار الحي". سألتها وش جايبكم الحين، أول مرة أشوف ناس جايين لندن في الخريف، ردت قالت حنا نجي نتسوق مرة في الخريف ومرة في الربيع غير الصيف إلي نقضي معظمه هنا في لندن، وأخبرتني بأن لديهم شقة في العمارة التي فوق المحل واسمها "ووتر قاردن". تمنيت لها السلامة وأعطيتها رقمي وقلت لها أنا مرافق أخوي للعلاج وإذا احتجت أي شيء هذا رقم الشقة، في أي وقت (ترقيم الثمانينات). باي شفاء،،،، باي نديم،،،،، .
في عصر اليوم التالي كنت سائر في نفس المكان في ادجوررود وفجأة سمعت من ينادي " نديم،،،نديم""نظرت للأعلى ورأيت فتاتين في الدور الثالث، فسألتني إحداهن على استحياء إنت نديم إلي البارح، قلت نعم أنا نديم، وإنت شفاء صح، قالت ايه،،، تعال اطلع عندنا من خلف العمارة شقة رقم ؟؟؟، طلعت الشقة وعرفتني على أمها "أم خماس" وأختها "شمة" ولم يكن معهم رجل (جميع الأسماء مستعارة هنا)، كانت عائلة طيبة وثرية، بدوية يبدو أن الحضارة فاجأتها على حين غرة فبدت كالغراب الذي قلد الحمامة فضيع مشيته ومشية الحمامة، لهجتهم بدوية، لبسهم بدوي على افرنجي، عباية فوق البنطلون الضيق أو التنورة القصيرة، والأم تلبس بطولة "برقع"، يسرحون ويمروحون في لندن وفي كل سوق ويهيمون
.
في اليوم الأول سوت أمهم أم خماس أكلة شعبية اسمها "الخبيص" وقالت "بنسير عند أخوك ونغديه" قلت وين يا عمي عند أخوي، تبين توديني في داهية، أخوي مطوع بنروح له بيتضايق، خليني آخذ الخبيص وأنا أوصله دليفري له، بس تسلم يدينك والله، رحت لخوي واستانس عليه وقصيت عليه، قلت جيرانا طلعوا من دار الحي وطبخوا لنا من غداهم وهذي ذواقتك.
شفاء كانت فتاة جميلة جمال إيراني، أقصر مني بعض الشيء، شعرها أسود داكن وجميل وتشبه الممثلة اللبنانية الأمريكية سلمى حايك، لا تضع أي نوع من أنواع الميك آب، سوى كحل خفيف على عينيها البراقتان وهي لا تحتاج لأكثر من ذلك كي تبدو جذابة، ابتسامتها رقيقة جداً، تبتسم بهدوء لتظهر أسنان جميلة براقة، وتفكر لبرهة قبل أن تجيب على أي سؤال فيزيد ذلك من سحرها ورقتها، ففيها الكثير من الحلم والتؤدة، ملت إليها كثيراً وأصبحت صورتها لا تغيب عني لحظة واحدة طوال الوقت، وقد تكون هي الحب الأول في حياتي، وهي كذلك سرعان ما بادلتني الحب، كنا نقضي سوياً ساعات كثيرة في التسوق والغداء والعشاء في الخارج وأجمل الأوقات في حديقة جيمس بارك التي تحبها والتي تقع بطريق قصر الملكة اليزابث الثانية.
وفي أحد الأيام قلت لها سوف نذهب لأمباير كلوب والذي يقع في ساحة الليستر سكوير وكانت أم خماس تلبس عبائة وبطولة وتريد أن ترافقنا للكلوب فأخبرتها أن ذلك غير مناسب لها أبداً إذا كانت ترتدي العبائة، فردت "والله ما أعقها، أنا لي عشرين سنة وأنا أجي لندن وماعمري عقيتها" عشرين سنة يا أم خماس، يعني لو نقصناها من عام 84 بنوصل للعام 64، يا الله حسن الخاتمة وبس، وش أسوي معاها هذي، المهم رحنا وجات بالبطولة والعباية. كان كل من كلوب الإمباير وسترينق فالو وكلوب الهيبدروم من الكلوبات الراقية جداً ولا يدخلها كل من هب ودب، فزبائنها تلك الأيام عادة الطبقة الوسطى والعليا، لكن الطبقة ما تحت المتوسطة أو الدنيا نادرة ما يسمح لها بارتياد تلك الأماكن كما هو الحاصل الآن، في المدخل كانت النادلات الجميلات يستقبلن الزبائن بملابس "أرنبية" ونسلم لهن البلوفرات والجاكتات، ثم ننزل لأسفل نحو المطعم وتجمع الزبائن، فأقتربت إحداهن من أم خماس وتوقعت أنها سوف تعطيها هذا اللباس الغريب فكادت أن تحدث معركة بينهن لأن البنت الإنجليزية رأسها وألف سيف ما تنزل أم خماس بالعباية والبطولة لأنها أعتبرتها مثل البلوفر ويسري عليها القانون كغيرها. حلينا المشكلة بعد جهد خرافي قبل ما يقفل الملهى بساعتين فقط. ويا فرحة ما تمت، بعد حوالي نصف ساعة أتت أم خماس تصيح وسط أصوات الموسيقى العالية من رجل انجليزي أعجب ببناجرها وخافت أن يسرقها منها ودعتنا للخروج، خرجنا وأركبناها تكسي أسود مثل حظنا المهبب وشحناها لشقتها وأكملنا السهرة في كلوب آخر في الطابق العشرين في فندق الهيلتون في البارك لين.
مع مرور الأيام أحببت شفاء حباً حقيقياً وهمت بها هيام تمكن من كل سكناتي،،،،،ولن أسترسل هنا لأسباب كثيرة، وهي بدورها بادلتني الحب واستطاعت أن تمدد اجازتهم من ثلاثة أسابيع لخمسة وخمسين يوم كما أذكر، وعندما سافرت إلى بلادها وتركتني وحيداً خلفها اكتئبت لأول مرة في حياتي وأحسست بلوعة الفراق وأصبح في حلقي غصة حقيقية وتغيرت معالم وجهي فأصبحت أكثر شحوباً أسير من غير هدى، وشعرت بأن لندن مدينة أغلقت أبوابها في وجهي وأني أسير والله وحيد رغم زحمة الناس من حولي، أذهب للهايدبارك أرى الأشجار والنهر الذي كنت أحبه فأشعر أنه قد تحول لنهر رتيب ممل والأشجار المتهادية الجميلة الخضراء اليانعة وكأنها أعجاز نخل خاوية، لم أعد أحب شيء، كنت لا أكل حتى الطعام، وعندما يشتد بي الجو ولكي أبقى على قيد الحياة أشتري شاورما من رنوش وأحاول أكلها فتنسد نفسي عن الطعام حينما أشتم رائحته. كنت دوماً أسير وأترنم وحيداً بأغنية عبد الكريم عبد القادر " غريب،،، غريب،،،،، غريب،،،،أمشي وبقلبي حزن، أمشي وبقلبي ألم" والأغنية الأخرى التي كان يغنيها راشد الماجد عندما كنا صغار " راح وخلاني وحيد، راح وخلاني حزين، يا حبيبي أهواك وعمري فداك،،،، ودي أسأل والله أسأل على حبيبي إلي راح". وأخذت القلم وكتب بها قصيدة تقطر حزنا ودموعاً كعادتي عندما تسيطير علي فكرة وتتمكن مني، وأريتها لرئيس تحرير صحيفة عربية قومية تصدر من لندن تسمى"العرب" واسمه رئيس التحرير الحاج أحمد الهويني، وكان يجلس في العصريات مع شلة النصب والاحتيال والأفاكين وأنصاف المثقفين في "قهوة الفكر العربي" فأعجب بالقصيدة، وقال سأنشرها ولكن سوف أغير أي كلمة تشير إلى "دار الحي" لأسباب شرحها لي، فوافقت على نصيحته، وفعلا نشرها بعد أن زينها بالصور والرسومات فظهرت معبرة جداً وأخذت أكثر من نسخة من الجريدة وارسلتها بالبريد إلى شفاء على عنوانها في دار الحي فقرأتها وارسلت لي الجواب رسالة فارغة فيها ق ب ل؟؟؟؟ حمراء فقط.
كانت هذه أول مرة يدق فيها قلبي ويفتح على مصرعية لحب حقيقي، ولكني أذكر عندما كنت صغيراً وأنا في الرابعة ابتدائي في مدينة الطايف، وكان يأتي في الصيف أيام الملك خالد يرحمه الله، وقبله الملك فيصل الكثير من المصطافين الذين كنا نطلق عليه اسم "الشروق" لأنهم يأتون من ناحية الشرق. وسكن في البيت الملاصق لنا أحد هؤلاء الشروق، وبالرغم من أن عمري كان نحو عشرة سنوات فقط، إلا أن قلبي دق على خفيف لبنت رائعة الجمال من بنات الشروق والتي بدورها عطتني وجه فنادتني في صباح يوم باكر وأنا أنظر لها من فوق السطوح، فأتيت عند بابهم وأعطتني "فش فاش، وعلك فلكس واجن وميرندا قزاز، وقالت لا تنس ترجع القارورة"خخخخ، كان هديتها عبارة عن عربون حب وصداقة، رحت بيتنا وأهلي نايمين وفكرت وش أعطيهاهدية، فكيت الثلاجة ما فيه إلا لحم وبامية وأدوية كحة وتحاميل خخخخ، رحت للدور الثاني لقيت أخوي إلي كان يدرس في أمريكا في السبعينات الميلادية جايب عطر حلاقة أولدسبايس old spice، قلت يا ولد ما فيه إلا هذي الهدية إلي بتخليها تموت في حبي، وفعلا أعطيتها الهدية بعد ما حطيتها في كيس مكتوب عليه "محلات بادغيش للملابس النسائية، فرع الطايف" وشكرتني وقالت ما فيه داعي تكلف على نفسك وأعطتني فش فاش ثاني لأنها تأكدت بأني مخلص بالحب، ورجعت لها قارورة الميرندا، خخخخ.
شفاء قابلتها أكثر مرة في لندن بعد ذلك، مرة أخرى أثناء علاج أخي، ومرات أخرى في زيارات مختلفة حتى رأيتها ومعها أحد أطفالها فأبتعدت عنها ونسيتها أو تناسيتها ودارت الأيام والسنوات وبعد أكثر من عشرين سنة كنت أتناول الطعام مع صديق في مطعم الحمراء في الماي فير بجوار السفارة السعودية وكان أمامي صبية جميلة تشبه شفاء ومعاه أمها وتلبس عباية وبطولة، فقلت في نفسي سبحان الله كأنها شفاء وأمها "أم خماس" أيام الثمانينات، وعندما بدأت الأم بتناول الطعام أزاحت البطولة ونظرت نحوها وللمفاجأة كانت هي شفاء وهذي هي بنتها إذن ،!!!فقد كبرت وأصبحت تشبهها في شبابها، لكن شفاء كبرت أسرع من اللازم وقد زاد وزنها وأصبحت "أم خماس" نسخة معدلة واكتفت بالابتسامة لي وأنا كذلك وكأننا لم نلتقي يوما ما،،،،،ولم أستطيع بعد عشرين سنة عندما رايتها أن اكمال طعامي ذلك اليوم، لأني تذكرتها عندما سافرت وتركتني وحيداً خلفها فكنت أمد يدي للطعام حينها فتمنعني لوعة الفراق من ذلك.
ألم الفراق
************************************************** ********************************
وبعيد عن الحب وسنينة سأختم لكم اليوم بقصة طريفة حصلت لي لاحقاً مع القاضي الذي حكم علي بكتابة عشرين صفحة "أنا أحترم رجل البلويس" وحكم على صاحبي "بغسل درج ساحة الحمام لمدة ثلاثة أيام"، فقد رأيت ذلك الرجل الطيب في صيدلية بوتس ولم أعرفه لأنه كان يرتدي في المحكمة باروكة بيضاء، وهي تقليد بريطاني يعمل به منذ نحو 300 سنة لإضافة الهيبة والوقار للقاضي، فتبسم لي وحياني فحييته وعرفني وقال كيفك أيها الشاب الصغير أرجو أن لا أكون قسوت عليك في الحكم، فقلت له كلا الحكم كان جداً بناء ويذكرني دوماً بأن أحترم رجال البوليس. ودعوته لتناول القهوة فوافق وقال ليس بيننا قضية الآن ولا يوجد مانع مهني من أن ألبي دعوتك، وفعلا تشرفت كثيراً بمعرفته واستفدت من طريقة إدارته للحوار ونظرته للأمور وتواضعه، وحدثني أنه يحب الشرق وسحره وقد عمل في كل من العراق وعدن عندما كان شاباً.
وهذ اللقاء الجميل ذكرني بأحد أصدقائي الصعاليك أيام المرحلة المتوسط الذي أصبح لاحقاً شيخاً وقوراً وقاضياً في أحد المحاكم، وقصة هذا الشيخ والذي اسمه "زريق" الذي كان ضعيف البنية في الأيام الخالية ودقيق الملامح وأحمر الخدين كأن به عرق شامي، وكان حقنة بمعنى الكلمة طوال الثلاث سنوات التي قضيناها في مدرسة الفيصل المتوسطة التي تقع في لخطوط الأربع في الدمام. لم نكن نعطيه وجه بالمرة ولا يلعب معنا أبداً، وفي مرة من المرات كنا نلعب كرة قدم وقت الفسحة في ساحة مدرسة الفيصل المتوسط، وهو ماكان يعرف يلعب، وكان غصب يبيي يلعب معنا أو يخرب علينا ، كان قاعد برى الملعب ولما جاته الكورة عنده شاتها برا سور المدرسة انتقاماً منا، رحت له قلت له جيبها يا زريق زي ما شتها برا السور، قال ماني جايبها، جيبها يا ابن الحلال انت إلي شقحتها فوق السور، ماني جايبها، قمت أعطيته كف، وكف ثاني وقلت بروح أجيبها أنا, فجأة قام نقز علي مثل القرد وتعلق في وسطي وحط رجولة حول جسمي ويدينه خلف ظهري، أستنيت بشوف ايش يسوي يمكن بيرد لي الكف أو يعضني أو يجر شعري أو أي شيء!!، لكنه ما سوى شي أبد، واقف كأني غورلا وكأنه أبني على غفلة متعلق في ، قلت أنزل يا حمار، قال ماني نازل، ياابن الحلال أنزل، ،،، اعطيه كف، كفيين، بقس ما فيه فايده، اطيح فوقه في الأرض ما هو راضي يفكني، أدور فيه عشان يدوخ، دخت أنا وطحت وهو متمسك في، كأنه قفل الكتروني، يا زريق عيب عليك انزل، طيب أعطيك الوجبة المدرسية واليخنة (وجبات مدرسية كانت توزع مجانا على الطلاب) ، طيب اعملك اسكان شعبي يا حبيبي، ما نزل، نعن أبوك الفسحة خلصت انزل بروح الفصل، اطيب تعلق من ظهري عشان الاستاذ لا يشوفك لما أجلس في الفصل،،،مانزل لين وصل الخبر لمدير المدرسة "عريج" واستاذ حسنين مدرس الهندسة واستاذ بسيوني مدرس الجغرافيا، والدكتور عبد الله الربيعة وزير الصحة المتخصص في فصل الأطفال السياميين (أمزح) وفكوه مني بعد أن قبل يديه المدير وقال وعد يا زريق إن فكيت نديم بنجحك هذي السنة وبنخليك عريف الفصل بعد، بس فك الولد خخخخخخ، ،،،هذا الزريق دارت الأيام وقابلته لما رحت لمدينة صغيرة بالقرب من الدمام لبيع أرض للوالد، وعندما لم نتفق مع المشتري قرر الوالد عمل توكيل لي بمحكمة نفس المدينة عشان لما يجي زبون ثاني أقوم أنا ببيعها بدل أن يأتي أبي لتلك المدينة مرة أخرى، وجينا مع الشهود ودخلنا المحكمة وتفاجأت بأن "زريقاً" هو القاضي أو كاتب العدل فلما رأني أندهش أكثر مني وكاد أن يبتسم وأن يفز من مكانه ويطير من ثنايا بشته الملكي ، لكنه بجزء من المليون من الثانية سيطر على جميع الأجهزة لأن ذلك سوف يؤثر على هيبته على ما يبدو. كنت سوف أطقه بكفه وأقول كيفك يا أبو الشباب والله زمان عنك يا زرووووووق يا حبيب قلبي، بس لاحظت إن الرجال كاتم مرة، وبدأ يسأل بصوت مسرحي مفخم أين الموكل، أين الوكيل،،،،أين الشهود،،، سلمناه البطاقات وقلت يمكن يعرفني الحين،،،أنزل رأسه وهو يخفي وجهه داخل طيات شماغه كأنه يقرأ البطاقات، وصدر عنه صوت مثل صوت المساحة لما نسحبها على طاولة الفصل "ايييءءء" فتأكدت أن يحاول أن يكتم ضحكة في نفسه وهو يصارع تلك الضحكة بكل ما أوتي من قوة، وقد يكون تذكر عندما نط علي وجثا على صدري مثل الجاثوم في متوسطة الفيصل، فحاولت أن أنظر له من تحت شماغة لأتأكد من حدسي، فأنزل رأسه زيادة مثل الطلاب إلي يغشون في الإمتحانات من البراشيم ، ثم استأذن للذهاب للمختصر، وقلت لزميل الشاهد معنا تركي الهاجري على حكاية زريق فمات أبو شايع من الضحك وقلت أحلق شنبي يا أبو شايع إذا ما كان منسدح الحين على الكنب وفاقع ضحك خخخخخ علينا، قال يا عمي أنتبه لا تستهون في هذا الشيخ، ترى الأسبوع إلي راح صك واحد بستة شهور سجن، قلت هذا زريق يقدر يسجن واحد ستة شهور، قال إيه زريق، انتبه والله ليطلع الطق إلي أعطيته يومنكم صغار بشخطة قلم واحدة ولا أحد يفكك منه، قلت يصير خير. بعد شوي طلع وكان وجهه حمر كأنه فلاح سوري في عز الشتاء، وتأكدكت إن زريق فك الضحكة لربع ساعة في المختصر ورجع بعد ما رجعت له السكينة والوقار المزيف.
زريق إنسان طيب بطبعة ولكن يبدو أنه كان خايف تنقلب الجلسة ضحك أمام المراجعين وإلا إني أفضحة بالحكايات إلي صارت بينا أيام المتوسط ، وآخر مرة شفته في العام 2001 عند بيتي عند أشارة المعهد الصحي في الدمام، كان فيه إشارة في آخر شارعي ومر من جنبي وشافني وكان بيوقف ويسلم لأن ما كان في أحد في الشارع، لكنه غير رأيه وكمل طريقه ووقف عند الإشارة، وأنا أطالعه وهو يناظرني من المراية العاكسة وشكله ميت ضحك وبعدين لما ولعت الإشارة طق هرن لي ولوح لي بيده الكريمة من شباك سيارته الجيب الفي إكس آر التي يفتن بها كل سنة مرة أو مرتان.
يتبع