المال لا رائحة له عند الفاسدين
المال مطلب للحياة الكريمة في هذا العصر ، وقد لا يراد المال لذاته عند الإنسان الأحوذي الصابر القادر على قمع نفسه وتأديب عقله وأخذهما بسنة من سلف ولكنه يراد لغيره في دفع مصيبة آكله ، وكبح معسرة ناشزة ، وإبلال نفوس كرام أقفرت حياتهم وصارت حرباً عوانا عليهم ولقفهم بالمندية من كل عيش على أفضالهم ، وقد صدق الشاعر العربي حينما قال :
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,medium,gray" type=4 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ذريني أطوف في البلاد لعلني = أصيب غني فيه لذي الحق محمل
أليس عظيماً أن تلم ملمة = وليس علينا في الحقوق معول[/poem]
أرأيتم كيف كانت النفوس الزاكية تأمل ، وكيف كانت العقول الأصلية تفكر ، أنهم لا يعيشون لأنفسهم بل لغيرهم ولا يريدون المال ليتكثروا به فمن كان صغير النفس قميء المطالب شانت أفعاله وخسئت أقواله ولو كانت أمواله كعدد حبات الرمل! ولقد كان الرجل منهم إذا دعاء ربه أن يهبه المال قال بلهف صادق وقلب مخبت وعين واكفة : ربي أرزقني مالاً صالحاً وبارك لي فيه واجعله في يدي لا في قلبي.. لأن ما يكون في اليد من المال لا يؤثر في القلب ولا يجد سبيلا لانتهاك حرمة الدين وتمزيق جلباب الأخلاق وسلب رداء الشهامة…. وما كان في القلب من المال يهدر كالسيل الجارف لا يقف ضده دين ولا يرعوي لوعظ أخلاق ولا يهتم بحال المجتمع ونقده..
تلك مطالب السادة في زمان ولى ولم تبق إلا ذكراه فارغة في الكتب نستروحها ونهش عند قراءتها ونبذل ما فضل من ماء العين إذا ذكرناها..!
وأما مطالب الناس فإنها أصدق دليل على مقدار ما بلغوه من سفالة في الأخلاق ورعونة في التفكير وبلادة في الحس ونقص في الدين ، فلم بعد يشغلهم غير المال وجمعه من أي طريق كان وبأية وسيلة حصلت ، لا يعترفون بمبادئ ولا يذلون لنداء ولا يستجيبون لبكاء..
يتمثلون ما جاء عن أحد القياصرة لما جعل على دورات المياه رسوماً يدفعها الشعب ، فقال له خاصته : هذه أموال ناتجة من قذارة.. فكان جوابه الأبلج : أن المال لا رائحة له! ولذلك كثرة السرقة في المجتمع وتنوعت أساليبها واختلف أهلها وتعددت ألقابهم فمن أمير لا يخاف الله ولا يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً قد جعل وكده انتهاب أموال الدولة عن طريق المشاريع الخيالية التي لا توجد إلا في ذهنه الجبار ، وعن طريق السطو على ممتلكات ( الغير ) وأراضيهم بصكوك مزورة وشهادات باطلة.. ومن وزير يتحايل على المال العام ويختلس منه بين الفينة والأخرى ما يكفي أمة من الناس يستجدون.. ومن تاجر قد لبس لبا النمر بسبب شراكة غامضة مع أناس غامضين فشرع يرتجل المشاريع التي تستولي على مقدرات الناس وحصيلة عمرهم حالمين بالثراء الفاحش والرفاهية في عالم لا يعترف بغيرها.. فكان عاقبة أمرهم خسرا ، ودمر الله عليهم فضاعت أموالهم وتلفت صحتهم ونضج ماء الحياء من وجوههم لكثرة غدوهم ورواحهم مطالبين أموالاً يمتلكها السراب..!
ومن موظفين كبار وصغار يتلاعبون بالأموال كل حسب وظيفته ومقدار هبته.. ولما طرقت مسامعنا وتلقفت أعيننا قصص الرشاوى الكبرى الفاحشة ، والواسطات العالية التكاليف لم نستغرب ذلك ونعده بدعا من القصص وضرباً من الخيال.. هذا بعض ما جره حب الدنيا والتكالب عليها وبسببه حدث فساد عريض في طبقات المجتمع تقطعت له أواصر وتمزقت به أخوات ، وهلكت لهوله أنفس .. فتحولت الروح العامة إلى مجموعة من الأرواح التالفة لا تربطها وشيجة ولا يمسكها ذمام.. وهذه الحال تهدم الأمة وتجعلها في مهب الريح عند أدنى مشكلة وأقل عاصفة.. والواجب على الدولة ومن ينتمي إليها انتماء دين ووطن أن تقوم بمحاربة الفساد لا بفرض العقوبات لأن هذا لا يجدي شيئاً مع داء عالمي مستفحل بل بنشر الوعي الديني والاجتماعي والسياسي ، بحيث يكون كل فرد عضواً فاعلاً مسئولاً عن نفسه بالمقام الأول ثم عن وطنه بالمقام الثاني ، وأن يفعل دور القدوة في الأمراء والعلماء وكبار القوم من مفكرين وكتاب وشعراء وأن تنتفي من وجودنا صفة ( الشحاذة ) بجميع أصنافها الراقية والوضيعة والعالمة والجاهلة والشاعرة والناثرة والفصيحة والعامية.. إذا فعلنا ذلك وجعلناه ديدن حياتنا ومقصد عقولنا وقبله أفعالنا فإننا سننتج وطناً صالحاً لسيادة العالم وتطبيق نموذجه الصالح في دنيا البشر..!