بسم الله الرحمن الرحيم
النوع الثاني : شرك خفي ، وهو الشرك في الإرادات والنيات . وفيه مبحثان :
المبحث الأول : الرياء .
المبحث الثاني : العمل لأجل الدنيا .
المبحث الأول : الرياء .
تعريفه : هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس فيحمدوا صاحبها .
أنواعه وحكمه :
الرياء إما أن يدخل في أساس العمل أو في تحسينه .
فإن دخل في أساس العمل – بمعنى أنه لا يأتي بأصل العبادة كالصلاة والزكاة والصوم إلا رياءً ولولا ذلك ما صلى ولا صام ولا ذكر الله – فهو مشركاً شركاً أكبر ، وهو من المنافقين الذين قال الله فيهم : ( إنّ المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) إلى قوله : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ) .
وإن دخل في تحسين العمل – بمعنى أنّ العامل إنما أراد بعمله وجه الله تعالى لكن حسنه رياءً كأن يطيل في الصلاة ليراه الناس – فإن الرياء في هذه الحالة يعتبر شركاً أصغر لا يخرج صاحبه من الملة ، إذْ المراد بالرياء ( الذي هو شرك أصغر ) هو يسير الرياء الداخل في تحسين العمل المراد به وجه الله تعالى .
لكن هذا الرياء – الذي هو شرك أصغر – هل يبطل العمل الذي قارنه أم لا ؟
إن قارن العبادة من بدايتها واستمر فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانها ، كقوله تعالى : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ).
وقوله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : " قال الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " رواه مسلم .
وإن كان الدافع للعبادة وجه الله تعالى وحده لكن طرأ عليه نية الرياء ، فإن كان خاطراً ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف ، وإن استرسل معه نقص العمل وحصل لصاحبه من ضعف الإخلاص بحسب ما قام في قلبه من الرياء ، لكن لا يحبط العمل على القول الراجح من أقوال العلماء . والله أعلم .
بعض ما ورد من النصوص في ذم الرياء والتحذير منه :
من الكتاب :
يقول عز وجل محذراً عباده المؤمنين أن يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى كما يبطل المرائي عمله بالرياء :
( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ... ) الآية .
ويقول سبحانه متوعداً الساهين عن صلاتهم المرائين فيها بويل وهو وادٍ في جهنم - أعاذنا الله منه - : ( فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون )
من السنة :
1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال ، فقال : " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ " قال : فقلنا : بلى يا رسول الله ، قال : " الشرك الخفي أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل " رواه أحمد وابن ماجه .
2- وعن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سمّع سمّع الله به ومن يرائي يرائي الله به " رواه البخاري ومسلم.
ومعناه : من أظهر للناس العمل الصالح ليعظم عندهم أظهر الله سريرته على رؤوس الخلائق .
الفرق بين الرياء والسمعة:
الرياء هو لما يرى من العمل كالصلاة ،والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر ويدخل في ذلك التحدّث بما عمله.
المبحث الثاني : العمل لأجل الدنيا .
المراد به : هو أن يعمل الإنسان أعمالاً صالحة يريد بها الدنيا ، إما لقصد المال أو الجاه ، كالذي يجاهد ويتعلم علماً ليأخذ مالاً ، أو ليحتل منصباً .. أو نحو ذلك من الأعمال الصالحة لكن نيته الحصول على مصالح دنيوية لا لطلب مرضاة الله .
الفرق بينه وبين الرياء :
قد يظن البعض أنّ هذا المبحث داخل في الرياء وأنّ هذا مجرد تكرار وهو ظن خاطئ ، وذلك أنّ المرائي إنما يعمل لأجل المدح والثناء ، والمريد بعمله الدنيا يعمل لدنيا يصيبها كالمال والمنصب .
أنواعه وحكمه :
العمل لأجل الدنيا لا يخلو من ثلاثة أمور :
الأول : أن تكون إرادة العبد من عمله كلها منحصرة في العمل لأجل الدنيا ولولا هذا المقصد لم يعمل ، وهذا ليس له في الآخرة نصيب ، وذلك أن العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن ، فإن المؤمن وإن كان ضعيف الإيمان فإنه لا بد أن يريد الله والدار الآخرة ، وإن كان يريد مع ذلك الدنيا .
الثاني : أن تكون إرادته من عمله وجه الله والدنيا ، والقصدان متساويان أو متقاربان ، وهذا شرك أصغر منافٍ لكمال التوحيد يحبط الأعمال التي قارنها ، لأن إخلاص العمل لوجه الله شرط من شروط صحة العبادة ، فإذا كان مراد العامل من عمله وجه الله و الدنيا فقد اختل شرط الإخلاص ففسد العمل .
الثالث : أن تكون إرادة العبد من عمله وجه الله وحده وأخلص فيه إخلاصاً تاماً ، لكنه يأخذ على عمله جُعْلاً معلوماً يستعين به على العمل ، كالجعالات التي تجعل على أعمال الخير ، والأوقاف التي تجعل على المساجد والمدارس والوظائف الدينية والدنيوية النافعة لمن يقوم بها ، فهذا لا يضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده لكونه لم يرد بعمله الدنيا وإنما أراد الدين ، وقصده أن يكون ما حصل له معيناً له على قيام الدين ، ولهذا جعل الله تعالى في الأموال الشرعية كالزكاة وأموال الفيء وغيرها جزءاً لمن يقوم بالوظائف الدينية والدنيوية النافعة . والله أعلم .
الأدلة على تحريم العمل لأجل الدنيا :
نظراً لأن العمل لأجل الدنيا منافٍ للإخلاص ، لذا جاء التحذير منه في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة ، منها ما يلي :
من الكتاب :
قوله تعالى : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون )
يخبر سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين أن من قصد بعمله الحصول على مطامع الدنيا فقط فإن الله يوفر له ثواب عمله في الدنيا بالصحة والسرور في الأهل والمال والولد ، وهذا مقيد بالمشيئة ، كما في قوله تعالى : ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ... )الآية .
وهؤلاء ليس لهم في الآخرة إلا النار ، لأنهم لم يعملوا ما يخلصهم أما أعمالهم التي عملوها فإنها باطلة لا ثواب لها لأنهم لم يريدوا بها الآخرة .
وقد سئل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب عن معنى هذه الآية ، فأجاب بما ملخصه : ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه :
النوع الأول : من ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وإحسان إلى الناس وترك الظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصاً لله لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته أو حفظ أهله وعياله أو إدامة النعم عليهم ، ولا همة له في طلب الجنة و الهرب من النار ، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا ، وليس له في الآخرة نصيب ، وهذا النوع ذكره ابن عباس .
النوع الثاني : وهو أكبر من الأول وأخوف ، وهو الذي ذكر مجاهد في الآية أنها نزلت فيه ، وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ، ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة .
النوع الثالث : أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً ، مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله ، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها ، أو يجاهد لأجل الغنم فقد ذكر أيضا هذا النوع في تفسير هذه الآية ، وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكتبهم أو رئاستهم ، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد ، كما هو واقع كثيراً.
النوع الرابع : أن يعمل بطاعة الله مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفِّره كفراً يخرجه عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم ، فهذا النوع أيضاً قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره ، وكان السلف يخافون منها ، قال بعضهم : لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله يقول : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) .
من السنة :
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ..) الحديث.رواه البخاري وابن ماجه.
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد ريح الجنة يوم القيامة ). رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد.
اللهم إنّا نعوذ بك من الشرك والشك والنفاق وسوء الأخلاق
اللهم إنّا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا ونحن نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه .
اللهم يا مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك.
اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علما والحمد لله على كل حال ونعوذ بالله من حال أهل النار .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
__________________________________________________ ___________
المراجع :
1- تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد.
2- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.
3- بعض أنواع الشرك الأصغر.