الإمام القرطبي
(671 هـ، 1273م )
هو محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي ثم القرطبي ، كنيته أبو عبد الله( )0
وكان للخزرج من الولد : عمرو ، وعوف ، وجشم ، وكعب ، والحارث ، لهم مُلك يثرب قبل الإسلام ، نزلوها حين خرج الأزد من اليمن ، ولم يزالوا بها إلى حين هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فآمنوا به ، ونصروه ، فسموا ( الأنصار )0
ولادته ونشأته :
نشأ أبو عبد الله في قرطبة . ونسب إليها ، بل أصبح أشهر علم من أعلامها ، فعندما يُذكر القرطبي ، بإطلاق ، فلا تنصرف أذهان العلماء وطلبه العلم إلا إليه ، فميلاده بقرطبة من بلاد الأندلس0
ولد أبو عبد الله بقرطبة ، وتلقى بها ثقافةً واسعةً في الفقه والنحو ، والقراءات ، وغيرها ، على جماعة من العلماء المشهورين0
가 كان السبب في ضعف المسلمين بالأندلس آنذاك : التآمر الضاري ضد الوجود الإسلامي ، والتنازع والتفرق ، حتى انصرف زعماؤهم إلى إقامة مملكة في كل مدينة ، وأَضفى كل حاكم على نفسه لقباً يباهي به غيره ، ومما قاله بعض الشعراء ساخراً من هذه الألقاب التي لا تترجم عن معنى :
ممَّا يُزهّدني في أرضِ أندلسٍ
ألقابُ معتضدٍ فيها ومعتمدِ
ألقاب مملكةٍ في غير موضعها
كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ
وضاعف من بلاء المسلمين تعاون بعضهم مع عدوهم ضد بعضهم الآخر، وقد يسَّر ذلك التحالف الآثم لعدوهم أن يعدو عليهم ، ويستولي على مدنهم واحدة بعد أُخرى ، وكانت ( طليطلة ) التي سقطت في النصف الثاني من القرن الخامس أول مدينة عامرة بالعلم والحضارة ، ثم سقطت سائر مدن الأندلس بعد ذلك ، وكانت ( غرناطة ) آخر معقل انتهى بسقوطه الوجود الإسلامي في الأندلس ، في أواخر القرن التاسع0
من مآثر القرطبي وأقواله
قال رحمه الله تعالى : فقد لبسنا العدو في ديارنا ، واستولى على أنفسنا وأموالنا ، مع الفتنة المستولية علينا ، بقتل بعضنا بعضاً ، واستباحة بعضنا أموال بعض ، نعوذ بالله من الفتن ، ما ظهر منها ، وما بطن0
وقال أيضاً : كما اتفق في بلاد الأندلس ، تركوا الجهاد ، وجُبُنوا عن القتال ، وأكثروا من الفرار ، فاستولى العدو على البلاد ، وأسر وقتل وسبى واسترق ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته0
وقال : ولجهلنا ، وغَلَبة شهواتنا علينا ، وظفر عدونا اللعين بنا ، صرنا أحقر من الفراش ، وأذل من الفراش ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم 0
وقال : ويقتضي ظاهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم لثوبان كما جاء صحيح مسلم :
( وإني سألت ربي ألا يهلكها بسَنةٍ عامة ، وألا يُسلِّط عليهم عدواً من سـوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد ، إني إذا قضيت قضاءً ، فإنه لا يُرد ، وإني قد أعطيتك لأمتك : ألا أهلكهم بسنةٍ عامة ، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم مَنْ بأقطارها ، حتى يكون بعضهم يُهلك بعضاً ، ويسبي بعضهم بعضاً ) أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم ، إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض ، وسُبي لبعضهم بعض ، وقد وُجِدَ ذلك في هذه الأزمان ، بالفتن الواقعة بين المسلمين ، فغلظت شوكة الكافرين ، واستولوا على بلاد المسلمين ، حتى لم يبقَ من الإسلام إلا أقله ، فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه ونصره لطفه0
وقال في تفسير قول الله تعالى : { كَمْ مِن فئةٍ قَليلةٍ غَلَبَتْ فئةً كثيرةً } تحريض على القتال ، واستشعار للصبر ، واقتداءٌ لمن صدَّق ربه0
ثم قال رحمة الله تعالى عليه : وهكذا يجب أن نفعل ، لكن الأعمال القبيحة ، والنيات الفاسدة ، منعت من ذلك ، حتى ينكسر العدد الكبير منا قدّام اليسير من العدو ، كما شاهدناه غير مرة ، وذلك بما كسبت أيدينا0
وفي البخاري : وقال أبو الدرداء : إنَّما تُقاتلونَ بأَعمالِكُم 0
وفيه مسنداً : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هَلْ تُرزقونَ وتُنصَرونَ إلا بِضُعفائكم ) ، فالأعمال فاسدة ، والضعفاء مهملون ، والصبر قلـيل ، والإعتماد ضعيف ، والتقوى زائلة0
قال الله تعالى : { اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله }0
وقال : { وعلى الله فتوكلوا }0
وقال : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون }
وقال : { ولينصرن الله من ينصره }
وقال : { إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون }0
فهذه أسباب النصر وشروطه ، وهي معدومة عندنا ، غير موجودة فينا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، على ما أصابنا وحل بنا ، بل لم يبقَ من الإسلام إلا ذكـره ، ولا من الدين إلا رسمه ، لظهور الفساد ، ولكثرة الطغيان ، وقلة الرشاد ، حتى استولى العدو شرقاً وغرباً ، براً وبحراً ، وعمت الفتن ، وعظُمت المِحن ، ولا عاصم إلا من رحم0
وقد أكثر القرطبي في كتبه من التعرض إلى ولاة زمانه ، وبيان ظلمهم ، وأنهم سبب من الأسباب التي جعلت الهزائم تحل بأرض المسلمين في الأندلس ، وأغلظ عليهم القول ، وتكلم عليهم بما يستحقونه من الذَم 0
نشأة الإمام القرطبي العلمية
إن إمامنا أبا عبد الله القرطبي ولد في أوائل القرن السابع الهجري بقرطبة ، ونشأ بها وأخذ عن جملة من كبار شيوخها ، وأخذ في سؤالهم ، والترداد عليهم0
إن القرطبي قد أقبل منذ صغره على العلوم الدينية والعربية إقبالَ المحب لها ، فأعطته من نفسها ما استحق به ذكر الخالدين ، وصرف وقته كله في دراسة قضاياه ، نجده كذلك في الفقه وأُصوله ، وفي اللغة وغرائبها ، وفي النحو وأبوابه ، وفي علوم القرآن ، والقراءات ، وهو كذلك في الحديث النبوي ، وعلم الرجال ، ولا بد أن يكون من وصل إلى هذا التميز في العطاء والتأليف ، متميزاً أيضاً منذ البداية في الأخذ والتلقي ، ولذا تجده يُكثر في كتبه من قوله : سمعت شيخنا ، وكان كذلك بقرطبة ، وهو في مرحلة الطلب0
ولم يقتصر علم القرطبي على الأخذ من شيوخه ، بل تعداه إلى مجالسة الكتب والنظر فيها0
الحالة العلمية في الأندلس
احتفظت قرطبة بشهرة المجد في طلب العلم0
أنشأ الأندلسيون في كل ناحية المدارس ، وخزائن الكتب ، وأقاموا في العواصم الجامعات التي كانت وحدها مواطن العلم في أوربا زمناً طويلاً ، حتى أصبحت قرطبة مدة ثلاثة قرون أكثر مدن العالم القديم نوراً ، وكانت حضارة ملوكهـا وقصور خلفائها ـ لكثرة عنايتهم بالعلم والعلماء ـ أشبه بمجامع علمية ، وقد ازدهرت المدارس والمعاهد العلمية في أيام الموحدين ، وكانت بقرطبة ، وغيرها يومئذ مجمع العلوم والمعارف ، ومقصد الطلاب من كل فج0
وقد اعتنى المرابطون والموحدون بالمساجد في الأندلس عامة وبقرطبة خاصة0
وفي هذا الجو نشأ إلامام القرطبي نشأ هذا العالِم الفاضل نشأة الفتى النابه الطلعة ، الذي يُقبل على مجالس العلم ومحافله ، التي كانت قرطبة تعج بها آنذاك ، سواء أكانت حلقات العلم هذه بالمدارس أم في المساجد ، رغبة في أن ينهل من موردها العذب في العلوم الدينية ، التي حاز فيها قصب السبق ، وظهر ذلك جلياً في مؤلفاته وآثاره( )0
قال ابن العربي : والذي يجب على الولي في الصبي المسلم ـ إذا عقل ـ أن يلقنه الإيمان ، ويعلمه الكتابة ، والحساب ، ويُحفظه أشعار العرب العاربة ، ويعلمه العوامل في الإعراب ، وشيئاً في التصريف ، ثم يحّفظه إذا استقل واشتد في العشر الثاني كتاب الله ، ثم يحفظ أصـول سنـن الرسول صلى الله عليه وسلم ( )0
بقي الإمام القرطبي بقرطبة حتى سقوطها ، وخرج منها إلى مصر ، والتي كانت محطاً لكثير من علماء المسلمين على اختلاف أقطارهم وأجناسهم ، إذ وجدوا فيها أمناً فقدوه في ديارهم0
فكثير من علماء الأندلس النابهين وفدوا إلى مصر في هذه المدة العصيبة من تاريخهم ، ومنهم ( الشاطبي ) و ( ابن مالك ) و ( القرطبي )0
والناظر في كتبه يجد ، فيها لمحاتٍ عن الأوضاع السياسية ، فإن القرطبي كان فيها في عصر المماليك ، وعملوا آنذاك على تخليص المشرق العربي من الغزو الصليبي ، وردوا غارات التتار التي كانوا يقصـدون بها مصر ، بعد أن أسقطوا الخلافة العباسية ببغداد ، ونهبوا بلاد الشـام ، وغدروا بأهلها ، حتى وصلوا إلى غزة يقصدون مصر ، وهنا بادرهم ( سيف الدين قطز ) قبل أن يبادروه ، فكان اجتماعهم في ( عين جالوت ) يوم الجمعة ، الخامس والعشرين من رمضان ، سنة (658) ، فاقتتلوا قتالاً عظيماً ، فكانت النصرة للإسلام وأهله ، وهزم المغول ورد الله سبحانه بذلك عن مصر شراً مستطيراً( )0
أخلاقه وصفاته وثناء العلماء عليه
زهده وورعه وصلاحه :
أثنى المؤرخون على القرطبي ، فقال ابن فرحون وتبعه الداودي :
كان من عباد الله الصالحين ، والعلماء العارفين الورعين ، الزاهدين في الدنيا ، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة0
ومن مظاهر ورعه وزهده : تصنيفه كتابي قمع الحرص بالزهد والقناعة و التذكرة في أحوال الموتى وأُمور الآخرة ، وذمه الغنى الذي يجعل صاحبه مزهواً به ، بعيداً عن تعهد الفقراء ، ضعيفاً في التوكل على رب الأرض والسماء0
شجاعته وجرأته في الحق
لا غرابة في أن يكون القرطبي شجاع القلب ، جريئاً في إعلان ما يعتقده حقاً لأنه قد استكمل الأسباب التي تسلحه بهذه الجرأة من علمٍ واسع ، وورع مشهود ، واستـهانة بالدنيا ومظاهرها ، لهذا كان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم ، ويتمثل في إيمانه في أكثر من موضع من تفسيره إلى أن الحكام في عصره حادوا عن سواء السبيل ، ففي تفسير قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُذلوا بها إلى الحكـام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } ينقل رأياً لابن عطية ، مفاده : لا تُصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم ، ليقضوا لكم على أكثر منها ، ويعلق القرطبي على هذه المقولة بقوله :
فالحكام اليوم عين الرشا لا مظنته ، ولا حول ولا قوة إلا بالله 0
هذا هو ذلك الزمان الذي قد استولى فيه الباطل على الحق ، وتغلب فيه العبيد على الأحرار من الخلق ، فباعوا الأحكام ، ورضي بذلك منهم الحكام ، فصار الحكم مكساً ، والحق عكساً ، لا يوصل إليه ، ولا يقدر عليه ، بدّلوا دين الله ، وغيروا حكم الله ، سماعون للكذب ، أكّالون للسحت { ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }( )0
للستزاده انظر كتابنا القواعد والاركان من أعلام قحطان .
نتمنى لكم ذنبا مغفورا وصيائم متقبلا
04-09-2009, 06:57 PM
من أعلام قحطان (3)
تعليمات المشاركة
المواضيع المتشابهه
العرض المتطور