الـــفـــاؤل .....حـــيــــاة (1)

قرأت له كلاما يقول فيه: أنا محبَط ، فاقد للثقة ، فكيف أنهض؟
كيف أخرج من حالتي الراهنة؟
لا أتوقع أن بوسعي فعل شيء أمام هجمات شرسة ، ظروف صعبة ، أحسست
أن أوضاعي من خلالها ممزقة ، وحياتي مكركبة ، وغير قادر على تجاوز كثير
منها! حتى قال هذا حالي أنا ، فكيف بغيري؟
بل قال هل من الممكِّن استرداد شيء من العزة، والخروج من حالة الغفلة
المطبقة، وهل يساوي دور الدعاة والعلماء شيء أمام مكر تزول منه الجبال؟
لعلك تقول: وهل هذا الكلام وتلك الشكاية تحل مشكلة أو تعالج قضية؟
هل طول الغمة يُطمع في انقضائها؟
وهل كثرة المصائب وتكالب الأعداء واشتداد الأزمة يوحي بانفراجها؟
هل نحن نعيش في أبراج عالية بعيدا عن الواقع؟
أم أننا نخادع أنفسنا ونحاول إيهام من حولنا أنه بإمكانهم فعل الخير
أو تغيير الواقع ، أو تعديل وتبديل شيئا ما؟
لعلك تسمع مقولات ، أو تقرأ كتابات من بعض المخلصين والحريصين على
بعث حياة جديدة لهم ولإخوانهم وأمتهم واسترداد مجدها، وبخاصة في
أوقات الأزمات والمحن ، ومراحل صولة العدو وهيجانه
أخي المسلم: لا بد أن نسليم بأن كثير منا يعيش أزمة
وتحيطه به الهموم والغموم والمشاكل
وأمتنا تعيش أزمة حقيقية
تمر بأوقات عصيبة ، وفترة ضعف بينة
صحيح أن تمسكنا بديننا ضعيف ، ولذا عظمت غفلتنا ، وكثر لهونا
وشكك عدونا الداخلي والخارجي بالأصول والثوابت
وبث فكره المناقض للفطرة والدين
أزهقت أرواح بسبب فكر دخيل ، واستباحت حرمات ونهب خيرات
وحصلت الفرقة بدل الوحدة ، واستهدفت بشدة ممتلكات ومنافع للناس
ومن حق كل من يعيش همَّ الأمة ، ويشعر بمسؤولية نحوها أن يحزن
ويتألم ، بل لا يقف إلى هذا الحد ، بل يطالَب كل صادق غيور إلى
القيام بالدور وحمل الأمانة التي وكل بها ، ولا تعارض بين هذا وبين ما
نحن بصدد تقريره من حرمة اليأس ، وبيان خطر الإحباط
ومن ضرورة التفاؤل
وجوب القيام برفع راية الأمل ، ومناداة للآباء والأمهات والدعاة والمصلحين
والغيورين ، بل وكافة أبناء المجتمع ذكوراً وإناثا إلى العمل والقيام بالواجب
ولقد جاء الإسلام حاثّاً على الرجاء والأمل
وداعياً إلى التفاؤل الإيجابي الذي يدفع إلى التصحيح والتطوير
إن اليأس والقنوط والإحباط والتشاؤم جوانب ليست داخلة في نسيج
التفكير الإسلامي ، ومهما أحاطت بالمؤمن الشدائد ، وادلهمت به الخطوب
فنصوص الشريعة شديدة الصراحة والوضوح في جانب التفاؤل
فالتفاؤل .. حياة
قال الله على لسان يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ مخاطباً أبناءه
{ وَلاَ تَيْئَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}
إن الذي يدعي أنه متفائل ويقعد عن العمل هو عاجز لا متفائل
فعلاج اليأس التفاؤل ........ والتفاؤل يبعث على العمل
ولذا قال يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ { يا بني اذهبوا فتحسسوا }
لقد أمر يعقوب بنيه أن يذهبوا فيتحسسوا
والتحسس يعني: التطلب والتعرف
يقول الشيخ ناصر العم ـ حفظه الله ـ ( ويفهم منه بذل جميع ما في
الوسع حتى تجدوا يوسف وأخيه ، فكأنه قال: اذهبوا فلا ترجعوا إلا بخبر
من يوسف وأخيه ، فاليأس ما دب إلى نفس يعقوب قط ، رغم ما قيل له
وما لقي مع طول المدة وبعد العهد بيوسف ، بل كان الأمل وتفاؤل
يخالج نفسه ، ولذا بعثه في نفوس أبناءه ، وليس أملاً وتفاؤلا مبنياً
على أوهام والتخدير ، بل كان إيجابيا ، يحض فيه على الحركة والعمل
الدؤوب ، ولعل هذا من تمام التوكل ، وصحيح الإيمان ، فاليأس من
روح الله وظن السوء به ـ جل وعلا ـ من خلق الكافرين ، لأن الذي يعرف
قدرة الله تعالى المطلقة وتصرفه التام في الكون ، وعظيم رحمته بخلقه
ومعيته للمؤمنين ، لا يملك أن ييأس ، ولا يتوقع منه إلا كل خير ، بل يرى
العافية في ثنايا البلاء ، ويوقن أن العليم الحكيم ما قدر عليه المصيبة إلا
لخير يريده له )
التفاؤل يدفع الإنسان لتجاوز المحن والشدائد ، ويحفزه للعمل ، ويورثه
طمأنينة النفس وراحة القلب
المتفائل لا يبني من المصيبة سجناً يحبس فيه نفسه ، لكنه يتطلع للفرج
الذي يعقب كل ضيق ، ولليسر الذي يتبع كل عسر
أخي المسلم: إن سم التشاؤم الذي يحاول المنافقون دسه للمنتمين
لهذا الدين وأهله ، له جدير بي وبك أن نبطله , وذلك بتقوية اليقين بمعية
الله وتوفيقه للمتوكلين الصادقين , وتعميق الإحساس بقدرة الله وعظمته
في نفوسهم , وتبشيرهم ببوادر النصر والتوفيق والسداد ، ويكون ذلك
بذكر حقائق من الواقع ، ثم اتخاذ الأسباب في العمل والتغيير
فلا تيأس ولا تقنط { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ إلا القوم الضالون} الذين انصرفوا
عن طريق الحق ، عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال:
( أكبر الكبائر: الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله
واليأس من روح الله )
ولذا نجد التفاؤل والثقة بموعود الله وحسن الظن به أصل راسخ ، وسِمَة ثابتة
ومَعْلَم بارز ، في حياة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ
تقول أمنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هل أتى
عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال :
" لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ
عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت
فانطلقت وأنا مهموم على وجهي , فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب
فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني , فنظرت فإذا فيها جبريل
فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك , وقد بعث
الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم , فناداني ملك الجبال فسلم
علي ثم قال: يا محمد , قال: ذلك فيما شئت , إن شئت أن أطبق عليهم
الأخشبين , فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل أرجوا أن يخرج الله
من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا " رواه البخاري
الله أكبر! ما أعظم الرجاء والتفاؤل والرحمة وبعد الهدف
وليس بغريب من كان هذا خلقه أن يبشر أصحابه بالظهور على الكافرين
في جزيرة العرب وما جاورها في أوقات كان الواحد منهم لا يأمن على حياته
وهو في بيته , فكانت النتيجة تسابقهم لرفع راية الإسلام في كل البقاع
بنفوس منشرحة قوية ، واثقة في نصر الله
ولذا جاء بعض الصحابة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسد بردة
له في ظل الكعبة ، يستنصرونه ، ويشكون إليه الحال ، وقد كانوا في فترة
يُضرَبون فيها ، ويُجوَّعون ويُعطَّشون ، حتى ما يقدر أحدهم أن يستوي جالساً
من شدة الضر ، فأنكر عليهم استعجالهم الفرج ، ووجَّههم ـ عليه الصلاة
والسلام ـ إلى الصبر الآمل الفاعل ، الذي يستمر صاحبه في المدافعة
ويبادر بجد ونشاط وحزم إلى تجاوز الأزمة ، ومواصلة الدعوة والتربية والعمل
والاجتهاد في الأخذ بأسباب النصر والتمكين ، مهما اشتدت الوطأة وعظمت
المشقة وتفاقمت المحنة وطال زمن الإصلاح والتغيير
قائلا " كان الرجل فيمن قبلكم ، يُحفَر له في الأرض ، فيُجعَل فيه ، فيُجاء
بالمنشار ، فيوضَع على رأسه ، فيُشَق باثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه
ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ، وما يصده ذلك
عن دينه ، واللهِ ليتمن هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت
لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " رواه البخاري
انظر لحسن الكلمة ، وجمال العبارة ، وروعة البيان
" ولكنكم تستعجلون "
لقد كان لها وقع كبير في قلوب المستضعفين في كل زمان ومكان ، استدراك
عجيب منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليخبر الصالحين والمصلحين والعاملين
على أمن البلاد والعباد ، أن الصبر هو الوسيلة العظمى ، والزاد النافع لهم
في طريقهم الطويل ، وهذا الطريق يحتاج إلى استقامة على شرع الله
والدعوة إليه ، فهو صعب وشاق ووعر ، ومليء بالأشواك والعقبات
يرميها .... وينشها .... ويضعها ..... ويجمعها
أصحاب النفاق والعلمة ومن كان في قلبه مرض على الدعاة والدعوة
لقد بشر ـ عليه الصلاة والسلام ـ بفتح صنعاء وحضرموت ، وقد توفي وهو لم
يشهد ذلك الفتح ، ومع ذلك لم يحمله استطالة الطريق أن ينحرف عن الهدف
ولم يتكاسل في تربية أصحابه ، بل أخبرهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن النصر
والفتح وهداية الناس بيد الله وحده
وانتظارهما من قبل العاملين ليس صحيحاً
وليس من الطموح والهمم العالية
بل هو من الاستعجال .. الاستعجال
نعم الإستعجال الذي هو أكبر خطأ يقع فيه كثير من الذين ظاهرهم
الاستقامة ودعواهم الإصلاح أياً كانوا وحيثما وُجدوا .
ولنا لقاء آخر ـ بإذن الله ـ فتفاءل في انظاره

عــــش مـــع الـــقــرآن .... تــعــش الــــحــيــاة

عــــش مـــع الـــقــرآن .... تــعــش الــــحــيــاة

عــــش مـــع الـــقــرآن .... تــعــش الــــحــيــاة