عرض مشاركة واحدة
قديم 22-03-2008, 12:59 AM
  #3
جبران أبن هتلان المهداني
عضو نشيط
تاريخ التسجيل: Mar 2008
المشاركات: 297
جبران أبن هتلان المهداني is a splendid one to beholdجبران أبن هتلان المهداني is a splendid one to beholdجبران أبن هتلان المهداني is a splendid one to beholdجبران أبن هتلان المهداني is a splendid one to beholdجبران أبن هتلان المهداني is a splendid one to beholdجبران أبن هتلان المهداني is a splendid one to beholdجبران أبن هتلان المهداني is a splendid one to behold
افتراضي رد : سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم

وأبلى حمزة رضي الله عنه في الإسلام بلاءً حسناً، ودافع عن الإسلام وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعاً عظيماً إلى أن اصطفاه الله تعالى في الشهداء، وقد شهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( سيد الشهداء حمزة) رواه الطبراني.

وأما الرجل الآخر الذي كان إسلامه كذلك فتحاً ونصراً للمسلمين، وخزياً للمشركين وحسرة عليهم فهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كان عمر رضي الله عنه من أوائل المحاربين للإسلام والمستهزئين بالمسلمين، وكان معروفاً بحدة الطبع وقوة الشكيمة، وطالما لقي المسلمون منه ألوان الأذى، وصنوف العذاب، قالت زوجة عامر بن ربيعة : " والله إنّا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجاتنا ، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علىَّ وهو على شركه وكنَّا نلقي منه البلاء أذىً لنا وشدةً علينا، فقال : إنَّه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قالت: قلت نعم والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا مخرجاً، فقال عمر صحبكم الله ، ورأيت له رقة لم أكن أراها ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا، قالت فجاء عامر بحاجته فقلت يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفاً ورقته وحزنه علينا، قال: أطمعتِ في إسلامه؟ قلت: نعم، قال : والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب "، قال ذلك يأساً منه لِمَا كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام، ولكن قلب المرأة كان أصدق من رأي الرجل، فإن غلظة عمر كانت قشرة خفيفة تكمن وراءها ينابيع من الرقة والعطف والسماحة تفجرت بعد إسلامه .

والظاهر أن عمر كانت تتصارع في نفسه مشاعر متناقضة، وهي تقديسه لتقاليد وعادات الأباء والأجداد، واسترساله مع شهوات السكر واللهو، ثم إعجابه بصلابة المسلمين وثباتهم على عقيدتهم، ثم الشكوك التي تراوده في أن ما يدعو إليه الإسلام أجل و أزكى من غيره.

هذا وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بدعاء كان بركة على عمر وتوفيقاً من الله تعالى له، روى الترمذي في سننه من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم (اللهم اعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب قال وكان أحبهما إليه عمر ) فاستكان عمر رضي الله عنه للحق وأعلن إسلامه، ولما خلُصت نفسه من شوائبها، وتمحَّصت بالإسلام، كان مدداً عظيماً لجند الله، فازداد المسلمون به منعة وقوة ووقعت في نفوس الكافرين حسرة، قال ابن مسعود رصي الله عنه: " إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنَّا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه " ، وروى البخاري عن ابن مسعود كذلك قال: " مازلنا أعزة منذ أسلم عمر".

وهكذا كان إسلام هذين الرجلين العظيمين فتحاً ونصراً للإسلام، ونصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوة للمسلمين، ورفعاً لمعنوياتهم، والمتأمل يجد فرقاً هائلاً بين طبيعة المواجهة مع الإسلام في سنيِّه الأولى وبينها في السنة التاسعة وما بعدها حيث انضم عمر بعد حمزة إلى ركب الإيمان ، فكانت بحق نقطة تحوّل جوهرية في السيرة النبويّة .


___ دار الأرقم ودورها في الدعوة :

لقد مرت الدعوة النبوية بمرحلتين أساسيتين: مرحلة الدعوة السرية، وكانت ثلاث سنين بمكة المكرمة، ومرحلة الدعوة الجهرية وهي ما بعد ذلك.

وكانت طبيعة المرحلة الأولى تتطلب سرية العمل الدعوي، ريثما تتهيأ الظروف المناسبة للجهر بها، وكانت دار الأرقم، هي المكان المناسب لمثل هذه الظروف من أيام الدعوة.

كانت هذه الدار - دار الأرقم - على جبل الصفا ، ذلك الجبل المنعزل عما يدور حوله ، فهي إذن بمعزل عن أعين الأعداء والمتربصين، وكانت - فضلاً عن ذلك - للأرقم بن أبى الأرقم بن أسد بن عبد الله المخزومي وكان اسمه عبد مناف ، وهو من السابقين الأولين الذين استجابوا لله والرسول، وباعوا عَرَض الدنيا لأجل الآخرة، وآثروا تحمل الأذى والعذاب على حياة الشرك والكفر، فقد توافرت - لهذه الدار - صفات عدة جعلت منها منطلقاً ومناراً لهذه الدعوة الناشئة.

والذي دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لاختيار هذه الدار عدة أسباب، منها :

1- أن صاحب هذه الدار وهو الأرقم لم يكن معروفا بإسلامه، فلم يكن يخطر ببال أحد من المشركين أن يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في هذه الدار.

2- أن الأرقم بن أبي الأرقم كان فتى عند إسلامه، ولم تفكر قريش أن هناك تجمع إسلامي عند أحد الفتيان، بل إن نظرها كان يتجه في الغالب إلى بيوت كبار الصحابة.

3-أن هذه الدار كانت قريبة من الكعبة المشرفة .

وفي هذه الدار المباركة، التقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه رضي الله عنهم، وتلقوا عنه تعاليم الإسلام وتوجيهاته الكريمة، حيث كان صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم ما ينزل عليه من القرآن الكريم، ويعلمهم أمور دينهم ويباحثهم في شأن الدعوة، وما وصلت إليه ، وموقف المعرضين عنها والصادين عن سبيلها.

كان يسمع شكوى أصحابه وما يلقونه من أذى المشركين وكيدهم، يتحسس آلامهم وآمالهم، ويطلب منهم الصبر والمصابرة، ويبشرهم أن العاقبة للمتقين، وأن النصر مع المؤمنين ، وأن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

لقد كانت رعاية الله وعنايته بالعصبة المؤمنة واضحة جلية لا تفارقهم بحال، على الرغم مما كان ينالهم من أذى المشركين، وكان من الحكمة البالغة في بداية أمر الدعوة الابتعاد بهذه العصبة المؤمنة عن كل ما يضر بها - قدر المستطاع -، وقد اقتضت حكمة الله سبحانه أن تبقى دعوة الإسلام ضمن مجالها السري إلى أن هيأ الله لها من الأسباب ما مكنها من إشهار أمرها وإعلان رسالتها، { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف:21).


___هجرة المسلمين الاولى الى الحبشة

لما جاءت رسالة الإسلام وقف المشركون في وجهها وحاربوها، وكانت المواجهة في بداية أمرها محدودة، إلا أنها سرعان ما بدأت تشتد وتتفاقم يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، حتى ضيَّقت قريش الخناق على المسلمين واضطهدتهم وأرهقتهم، فضاقت عليهم مكة بما رحبت، وصارت الحياة في ظل هذه المواجهة جحيماً لا يطاق، فأخذ المسلمون يبحثون عن مكان آمن يلجؤون إليه، ويتخلصون به من عذاب المشركين واضطهادهم.

في ظل تلك الظروف التي يعاني منها المسلمون، نزلت سورة الكهف، تلك السورة التي أخبرت بقصة الفتية الذين فروا بدينهم من ظلم مَلكِهِم، وأووا إلى كهف يحتمون به مما يراد بهم، كان في هذه القصة تسلية للمؤمنين، وإرشاداً لهم إلى الطريق الذي ينبغي عليهم أن يسلكوه للخروج مما هم فيه. لقد عرضت قصة أصحاب الكهف نموذجاً للإيمان في النفوس المخلصة، كيف تطمئن به، وتؤثره على زينة الحياة الدنيا ومتاعها، وكيف أن الله تعالى يرعى هذه النفوس المؤمنة ويقيها الفتنة، ويشملها برحمته ورعايته { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا} (الكهف:16).

لقد وضَّحت هذه القصة للمؤمنين طريق الحق والباطل، وبيَّنت أنه لا سبيل للالتقاء بينهما بحال من الأحوال، وإنما هي المفاصلة والفرار بالدين والعقيدة، وانطلاقاً من هذه الرؤية القرآنية أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين المستضعفين بالهجرة إلى الحبشة، وقد وصفت أم المؤمنين أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحدث فقالت: ( لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء، والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله عليه وسلم إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً - أي جماعات - حتى اجتمعنا بها ، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمِنَّا على ديننا ولم نخش منه ظلماً ) رواه البيهقي بسند حسن .

قال الله تعالى { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } ( النحل:41) قال قتادة – رحمه الله - " المراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة، وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين " .

وكان الذي دعى الصحابة لتلك الهجرة عدة أساب، منها شدة العذاب الذي لاقاه الصحابة من المشركين، حيث استخدم المشركون شتى أنواع العذاب لكي يفتنوا الصحابة عن دينهم، وكان نشر الدعوة خارج مكة المكرمة، وتكوين قاعدة تحمي العقيدة سبباً رئيساً آخر لتلك الهجرة.

وهكذا هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة، وكان هذا الفوج مكوناً من اثني عشر رجلاً و أربع نسوة، كان في مقدمتهم عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رحيلهم تسللاً تحت جنح الظلام حتى لا تشعر بهم قريش، فخرجوا إلى البحر عن طريق جدة، فوجدوا سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، ولما علمت قريش بخبرهم خرجت في إثرهم، وما وصلت إلى الشاطئ إلا وكانوا قد غادروه في طريقهم إلى الحبشة، حيث وجدوا الأمن والأمان، ولقوا الحفاوة والإكرام من ملكها النجاشي الذي كان لا يظلم عنده أحد، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .

ومما يستفاد من أحداث الهجرة إلى الحبشة :

1- الصبر على الشدّة والبلاء في سبيل الله فلقد لاقى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة المكرمة، من الشدّة والأذى ما يصعب على غيرهم احتمالُه.

2- ثبات المؤمنين على عقيدتهم ودينهم الحنيف، دون الخضوع لضغوط الأعداء.

3- شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ورحمته بهم، حيث أشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة.

وهكذا هيأ الله لعباده المؤمنين المستضعفين المأوى والحماية من أذى قريش وأمَّنهم على دينهم وأنفسهم ، وكان في هذه الهجرة خير للمسلمين، إذ استطاعوا -فضلاً عن حفظ دينهم وأنفسهم - أن ينشروا دعوتهم، ويكسبوا أرضاً جديدة تكون منطلقاً لتلك الدعوة، ومن كان مع الله كان الله معه..



___هجرة المسلمين الثانية إلى الحبشة :
ذكرنا سابقا أن هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة كانت خيراً للمسلمين وفتحاً جديداً للإسلام، استطاع المسلمون فيها أن يكسبوا أرضاً جديدة تكون منطلقاً لدعوتهم، واستطاعوا أن يقيموا شعائر دينهم بأمان. غير أن هذه الهجرة لم تدم طويلاً، حيث رجع المسلمون من أرض هجرتهم إلى مكة بعد أن بلغهم أن قريشاً هادنت الإسلام وتركت أهله أحراراً، إلا انهم بعد وصولهم إلى مكة وجدوا الأمر على خلاف ما ظنوه، فاضطروا إلى الهجرة مرة ثانية.فما خبر هذه الهجرة ؟ هذا ما سوف نعرفه في الأسطر التالية.

إن الإشاعة التي بلغت المؤمنين في أرض الهجرة تركت أثرها في قلوبهم ، فقرروا العودة إلى وطنهم، وكان سبب هذه الإشاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحرم وفيه جمع كبير من قريش، فقام فيهم وأخذ يتلو سورة النجم، ولم يكن المشركون قد سمعوا القرآن سماع منصت من قبل, لأن أسلوبهم المتواصل كان هو العمل بما تواصى به بعضهم بعضاً { لاتسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } (فصلت:26) .

فلما فاجأهم النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذنهم القرآن في روعة بيانه ، وجلالة معانيه، أعطوه سمعهم، فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { فاسجدوا لله واعبدوا } سجد، فلم يتمالك المشركون أنفسهم فسجدوا .

وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدَّعت العناد والكِبْر الذي في نفوسهم، فخروا ساجدين، فبلغ هذا الخبر مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تماماً عن صورته الحقيقية، حيث بلغهم أن قريشاً أسلمت، فرجعوا إلى مكة آملين أن يعيشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قومهم وأهليهم آمنين، فلما وصلوا قريباً من مكة عرفوا حقيقة الأمر، وأن ما وصلهم من الأخبار غير صحيح ، بل إن قريشاً أشد وأنكى على المسلمين من ذي قبل، فرجع من رجع منهم ، ومن دخل مكة دخلها مستخفياً، أو في جوار رجل من المشركين، ثم زاد المشركون في تعذيب هؤلاء العائدين وسائر المسلمين، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بداً من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى ، فهي المنفذ الوحيد والمخرج بعد الله تعالى - من بلاء قريش - لما يتميز به ملِكُها النجاشي من عدل ورحمة وحسن ضيافة، وقد وجده المسلمون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لايظلم عنده أحد) .

فقرر المسلمون الهجرة مرة ثانية، ولكن الهجرة في هذه المرة كانت أشق وأصعب من سابقتها، حيث تيقظت قريش لها، وقررت إحباطها ، لكن المسلمين كانوا قد أحسنوا التخطيط والتدبير لها ويسَّر الله لهم السفر ، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن تدركهم قريش، وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلاً ، وثماني عشرة امرأة .

وكما كان في الهجرة الأولى خير للإسلام والمسلمين ففي هذه الهجرة كان الخير أكثر وأكثر، فازداد عددهم وانتشر خبرهم، وكانت أرض الحبشة التي أمِنوا فيها على أنفسهم ودينهم منطلقاً للدعوة الإسلامية وملاذاً لكل مضطهد وطريد من المسلمين، والله يؤيد دينه وعباده المؤمنين بما شاء من جنوده التي لا يعلمها إلا هو ، فله الحمد في الأولى والآخرة .


نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في نهار يوم الاثنين من شهر رمضان وعمره أربعون سنة ، وذلك في غار حراء بجبل حراء بمكة المكرمة ثم انقطع الوحي مدة طويلة وبعدها عاوده الوحي فنزلت { يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر } ( المدثر 5:1). ثم فتر الوحي ثانية ليلتين أو ثلاثا حتى قال المشركون : قد ودع محمد ربه فنزلت: { والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } ( الضحى 3:1).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي من نزول الوحي عليه شدة ، فكان جبينه يتفصد عرقا ، وكان جسمه يثقل ، وكان يتعجل في تلقي القرآن ويركز ذهنه بشدة خوف أن ينساه ، لكن الله تعالى بين له أنه يتكفل له بحفظه تخفيفا عنه.

وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي بعد الفترة الأولى أنه مكلف بحمل رسالة إلهية ، ويجب أن يقوم بتبليغها، فمضى يدعو أصدقائه وأهل بيته أولا ، ثم وسع نطاق المدعوين ، وكانت الدعوة في هذه الفترة سرية ، لئلا يفطن لها المشركون ، ويشتدوا في رصدها والقضاء عليها.

وقد استغرقت مرحلة الدعوة السرية ثلاث سنوات أسلم خلالها إضافة إلى خديجة أم المؤمنين عدد من أصدقائه وهم : أبو بكر الصديق ، وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب ـ ابن عمه ـ وزيد بن حارثة ـ مولاه ـ وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وخالد بن سعيد بن العاص وآخرون من الأحرار والعبيد مثل عمار بن ياسر وبلال الحبشي وصهيب الرومي ، وكان عدد المسلمين يزاد مع الأيام ، ولم يلقوا أذى من قريش في هذه المرحلة لأنها سرية ، ولأن قريش لم تتبين بعد خطورة الدعوة الإسلامية على عقائدها ومصالحها . لكن الدعوة تحولت إلى العلانية فبدأت مواقف قريش تسفر عن العداوة والمقاومة.

وقد أمر الله تعالى رسوله بإعلان الدعوة وإنذار عشيرته فقال تعالى: { وأنذر عشيرتك الأقربين } ( الشعراء 214) فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: ( يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش ، فقال : " لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ " قالوا : ما جربنا عليك كذبا قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " فقال عمه أبو لهب : تبا لك ، أما جمعتنا إلا لهذا ! ؟ ثم قام ، فنزلت سورة المسد ترد عليه تبت يدا أبي لهب وتب ) رواه البخاري .

وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسفيه عقائد المشركين وتوضيح عقيدة التوحيد ، وتجهمت له قريش وبدأت بدعاية كاذبة ضده فمرة تتهمه بالجنون وآخرى بالسحر وثالثة بأنه شاعر .

وأخذ المشركون يسبون مذمماً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم ، يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد ) رواه البخاري .

وقد قام سفهاء قريش برمي فرث الجزور ودمها عليه وهو ساجد يصلي، وهم يتضاحكون، فعلمت فاطمة فجاءت تنفض عنه ذلك، ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب تكذيبهم إياه واستعصائهم على الإيمان، وليس بسبب إيذائهم له، فطالما احتمل آذاهم ودعا لهم بالهداية.

وكان المشركون يسبون القرآن إذا سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يجهر به وكان يحرص على الصلاة في المسجد الحرام ليظهر شعائر الإسلام واحترام الكعبة وتعريف الناس بدينه، وقد أمره الله تعالى بعدم رفع الصوت بالقرآن تجنبا لسب المشركين .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي مرة بفناء الكعبة، إذا أقبل عقبة بن أبي معيط ، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " رواه البخاري .

وقد ختم المشركون أذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاولة قتله في أواخر المرحلة المكية مما كان سبباً مباشراً للهجرة إلى المدينة . هذا عن أذى المشركين للرسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما أذاهم لأتباعه المؤمنين ، فقد انصبت على المستضعفين منهم أنواع العذاب ، حيث " ألبسوهم أدراع الحديد ، و صهروهم في الشمس " وكان بلال يصمد لأذاهم حتى طاف به الولدان في شعاب مكة وهو يقول : أحد أحد ... وممن عذب في الله : عامر بن فهيرة وبلال ونذيرة وأم عبيس والنهدية وأختها ، وجارية بني عمرو بن مؤمل.

وقد اشترى أبو بكر رضي الله عنه الرقيق المؤمنين من قريش وأعتقهم ليمنع عنهم العذاب ، فقال له أبوه قحافة: لو أنك أعتقت رجالا جلدين يمنعونك ؟ فبين له أنه إنما يريد الله لا المنعة رواه الحاكم في المستدرك بإسناد حسن .

وقد وردت روايات كثيرة في ألوان العذاب التي لقيها عمار بن ياسر وأهله ، وممن ناله الأذى في سبيل الله خباب بن الأرت حتى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله يخفف عن المستضعفين .

وقد أمر الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والاحتساب ، وضبط النفس ، وعدم مقارعة القوة بالقوة، والعدوان بالعدوان ، حرصا على حياتهم ، ونظرا لمستقبل الدعوة لئلا يئدها الشر وهي لا تزال غضة طرية ، ولعل المشركين كانوا يحرصون على مواجهة حاسمة مع الدعوة تنهي أمرها ، ولكن الحكمة الإسلامية فوتت عليهم ذلك الهدف .

وكان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على عينه ، ويوجههم نحو توثيق الصلة بالله والتقرب إليه بالعبادة ، فكانوا يقومون شطر الليل للصلاة قريبا من سنة ورمت أقدامهم وضعفت أجسادهم ، فخفف الله عنهم بعد أن علم اجتهادهم في طلب مرضاته ، وبعد أن نجحوا في امتحانهم بهجر الفرش والنوم لتربيتهم على المجاهدة ، وقد ظهر أثر هذا الإعداد الدقيق للمسلمين الأوائل في قدرتهم على تحمل أعباء الجهاد وإنشاء الدولة الإسلامية في المدينة .

وقد حاولت قريش أن تقنع أبا طالب عم الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليكفه عن الدعوة ، و لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أوضح لهم اعتزامه المضي في الدعوة ، وإنه لا يمتلك حق التوقف عن التبليغ لأن الله أمره به ، فانصرفوا خائبين.

وكان المسلمون في العهد المكي يتعرضون لضغوط كثيرة من قبل المشركين ، بعضها نفسي كالسخرية والتكذيب والسب ، وبعضها بدني كالضرب والتعريض للشمس المتوهجة في رمال الصحراء الملتهبة ، وبعضها اقتصادي كالامتناع عن مخالطتهم وتنفير الناس منهم .

وكان القرآن ينزل لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، بتعميق المعاني الإيمانية ، وغرس الصبر في نفوسهم ، وتربيتهم على الأخلاق الفاضلة ، وانتزاع شوائب الجاهلية وبقاياها من سلوكهم وعاداتهم ، وأمرهم بالاستعانة بالصلاة وتوثيق الصلة بالله تعالى ليزاد إيمانهم ويقووا على مواجهة أعدائهم .

ولما هاجروا إلى الحبشة وبعدوا عن أوطانهم وعدهم الله تعالى المثوبة . وقد وعد الله المؤمنين الصابرين بالنصر في الدنيا والأجر في والآخرة .

ووضح القرآن أهمية الالتزام بالحكمة وحسن المخاطبة ، والعدل في معاملة الآخرين . وتدل الصفات التي وصف الله تعالى بها المسلمين في السور المكية على سموهم الخلقي وإيمانهم العميق .

وخلاصة الأمر: فإن الحرب على دعوة الإسلام قائمة ومستمرة، ولكن الله ناصر دينه وأوليائه، ومنتقم من أعدائه، فله الحكمة البالغة وهو علي كل شئ قدير.


___المقاطعة الاقتصادية


من سنن الله الكونية الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، ولا يزال الأمر كذلك أينما وجد الحق أو كان له أتباع، فالحق مُمْتَحن، ولكنه منصور ولو بعد حين، { يريدون ليطفئوا نور الله بأَفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} (الصف).

وأقرب مثال لبيان حقيقة ما سبق موقف المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، حيث لم يتركوا وسيلة لحربه إلا سلكوها، ولا سبيل إيذاء إلا اتبعوه، ولما رأت قريش أن عدد الداخلين في الإسلام قد ازداد، وأن شوكة الإسلام قد قويت بعد إسلام عمر وحمزة، بدأت في التفكير في أسلوب جديد وطريقة أخرى للقضاء على هذه العصبة المؤمنة.

فمن طرق الحرب التي سلكها المشركون ضد المسلمين، الحصار الاقتصادي، فقد تمخض حقد المشركين عن عقد معاهدة تعتبرُ المسلمين ومن يرضى بدينهم، أو يعطف عليهم، أو يحمى أحداً منهم، حزباً واحداً دون سائر الناس، ثم اتفقوا فيما بينهم على أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهد وميثاق " أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل ".

وعلقت هذه الصحيفة في الكعبة لتأخذ بنودها طابع القداسة، وأنه يجب التقيد والالتزام بها، فالعرب قاطبة تقدس الكعبة، لذا عمدت قريش إلى تعليق الصحيفة داخل الكعبة.

وقد فعلوا ذلك في الوقت الذي كانت فيه العرب عامة وقريش خاصة تتغنى بالكرم والجود والبذل والعطاء، وتعتبر هذه الخصلة من مواطن الفخر والمنافسة والسباق، ولكن لماَّ تمكن الحقد من قلوبهم، وسرى الغل في نفوسهم، نسوا كل هذه المعاني التي تعارفوا عليها، وأصبح الذين يطعمون الضيفان، ويلتمسون المحتاجين، يبخلون بالحقوق على قرابتهم وجيرانهم، فقطعوا الأرحام وأجاعوا الأطفال والنساء، ونُزعت من صدورهم كل معاني الإنسانية.

فاضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى الاحتباس في شِعب بني هاشم، وانحاز إليهم بنو المطلب كافرهم ومسلمهم عدا أبا لهب ، فقد انحاز لقريش في خصومتها لقومه. وضيَّق المشركون الخناق على المسلمين، وقطعوا عنهم المؤن، ونفد الطعام حتى بلغ بهم الجهد والتعب أقصاه، وسُمع بكاء أطفالهم من وراء الشعب، حتى رثى لحالهم بعض خصومهم.

وكان الصحابة المحاصرونَ إذا جاءت عير إلى مكة، يأتي أحدهم السوق ليشتري قوتاً لعياله، فيقول أبو لهب للتجَّار: يا معشر التجَّار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً، وقد علمتم مالي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيد التجَّار عليهم في قيمة السلعة أضعافاً مضاعفة، فيرجع أحدهم إلى أطفاله من غير شيء، وهم يصرخون من الجوع، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة -أي صوتاً- تحت البول، فإذا هي قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها، ورضضتها بالماء ، فتقويت بها ثلاثة أيام". وهذا يدل على مدى الشدة والحال التي وصلوا إليها بسبب ذلك الحصار.

وفي أيام الحصار، وفي تلك الحال، كان المسلمون يخرجون للقاء الناس في موسم الحج لدعوتهم إلى الإسلام، فلم تشغلهم آلامهم وما هم فيه عن تبليغ دعوتهم وعرضها على كل وفد يأتي إلى مكة، فإن الاضطهاد لا يقتل دعوة الحق، بل يزيد جذورها عمقاً وفروعها امتداداً .

وقد كسب الإسلام -خلال فترة الحصار- أنصاراً كُثُر، وكسب - إلى جانب ذلك - أن المشركين قد بدؤوا ينقسمون على أنفسهم، ويتساءلون عن صواب ما فعلوا، حتى قيض الله تعالى فريقا منهم لإبطال هذه المقاطعة، ونقض الصحيفة الجائرة، وذلك بعد ثلاث سنين من الشدة والبلاء.

وإذا كان ظاهر المقاطعة يلحق المشقة والعناء برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهذا الذي كانت تأمله قريش، فإن المقاطعة ألقت بآثارها السيئة على غير المسلمين من أهل مكة من حيث لا يشعرون، فقد تأثرت الحياة الاجتماعية من صلة رحم ونكاح ومخالطة، كما تأثرت الحياة الاقتصادية على كلا الطرفين، ومع ذلك فإن أحداث هذه المقاطعة مليئة بالفوائد والعبر، فمن تلك الفوائد والعبر:

- أن أعداء الله في كل زمان ومكان يحاربون الدعاة في أرزاقهم، حتى يستكينوا أو يرجعوا عما يدعون إليه.

- أن الإيمان إذا خالطت بشاشة القلوب، عاش صاحبه في جنة الدنيا، وإن كان أفقر الناس، ولهذا حرص الصحابة رضي الله عنهم على القيام بواجب الدعوة إلى الله في موسم الحج، مع ما هم عليه من حال عصيبة.

- على أهل الإيمان أن يستعدوا في كل حين لما يحيكه أعداء الباطل بهم .

وما أشبه الليلة بالبارحة، فأعداء الله في كل زمان ومكان حرب على الحق وأهله، كما قال الله تعالى: { ولا يزالون يقاتِلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } (البقرة: 217) وهم يستخدمون في ذلك من أساليب الحرب وأسلحتها ما يشبه بعضهم بعضاً فيه، ويرثه المتأخر عن المتقدم، ومن ذلك ما تقدم معنا من الحرب الاقتصادية، والتي استخدمها أعداء الإسلام في هذه الأزمنة أسوأ استخدام، ففعلوا بها الأفاعيل، فكم قتلوا بها من أطفال وشيوخ ونساء، بمنعهم الطعام والشراب والدواء، فأهلكوا الحرث والنسل على مسمع ومرأىً من العالم الذي يرعى حقوق الحيوان، ويزعم أنه يحفظ حقوق الإنسان!!


___عام الحزن


بعد أحداث المقاطعة الاقتصادية والحصار الذي قام به المشركون ضد المسلمين، وبعد نقض تلك الصحيفة الجائرة، انطلق المسلمون من الشِعب يستأنفون نشاطهم الدعوي، بعدما قطع الإسلام في مكة قرابة عشرة أعوام مليئة بالأحداث الجسام، وما أن تنفَّس المسلمون من الشدة التي لاقوها، إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يصاب بمصيبتين عظيمتين هما: وفاة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ، ووفاة عمه أبي طالب .

لقد كان لوفاة خديجة رضي الله عنها وقعه الشديد على النبي صلى الله عليه وسلم، فهي التي آزرته في أحرج الأوقات، وأعانته على إبلاغ رسالته، وشاركته أفراحه وأتراحه، وواسته بنفسها ومالها، ووقفت بجنبه ساعة الشدة، وظلت ربع قرن من الزمان تتحمل معه كيد الخصوم، وآلام الحصار، ومتاعب الدعوة، ولذلك كان موتها من أكبر المصائب التي مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى حزن عليها أشد الحزن وظل يذكرها بالخير طول حياته، ويبين للناس فضلها وإحسانها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت فغِرْتُ يوماً فقلت: ما أكثر ما تذكرها، حمراء الشدق قد أبدلك الله عز وجل بها خيراً منها، قال: ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء ) رواه أحمد .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ (أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، هـذه خديجة قـد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقـرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قَصَب لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ‏) رواه البخاري .‏

وفي نفس العام الذي توفيت فيه خديجة رضي الله عنها توفي عمه أبو طالب ، وكان موته مصيبة أخرى أضيفت إلى المصائب والأحزان التي ألمَّت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أبو طالب الحصن الذي تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء مع بقائه على ملة قومه .

فقد ظل أبو طالب يحوط النبي صلى الله عليه وسلم ويدافع عنه، ويغضب له، ولم تستطع قريش أن تنال من النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد موت أبي طالب، فقال عليه الصلاة والسلام : (ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب) .

والذي ضاعف حزن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمه أبا طالب مات كافراً، ومع حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايته ودعوته للإسلام، إلا أن سنة الله في خلقه لا تتبدل { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين } (سورة القصص:56).

ولتوالي هذه الأحزان على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام واحد عرف ذلك العام العاشر من البعثة، عند أهل السير بعام الحزن، وقد قال بعضهم مصوراً الحال بعد وفاة خديجة رضي الله عنه، وأبي طالب :

فجاء عمك حصناً تستكن به فاختاره الموت والأعداء في الأجم
تُرمى وتُؤذى بأصناف العذاب فما رئيت في ثوب جبَّار ومنتقم
حتى على كتفيك الطاهرين رموا سلا الجزور بكف المشرك القزم
أما خديجة من أعطتك بهجتها وألبستك ثياب العطف والكرم
غدت إلى جنة الباري ورحمته وأسلمتك لجرح غير ملتئم

إنها أحداث تهز الكيان البشري، وتزلزل الأرض من تحت أقدام الضعفاء، أما من قوي إيمانه بالله ويقينه بوعده ونصره، فلا تزيده هذه الأحداث إلا تصميماً وعزماً على مواصلة الطريق، وهكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم.

وعلى الرغم من المحنة التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم، لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بشؤون أصحابه، ويقف إلى جوارهم ويواسيهم، ففي شوال من العام نفسه تزوج النبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعه ، وذلك حين خشي عليها من بطش قومها بعد وفاة زوجها، وهي أول زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها.

لقد علمتنا تلك الأحداث دروساً عديدة، فمنها أن الله سبحانه وتعالى يسخر للمؤمن من يحمي دعوته، وحياته من الأذى.

ومنها أن الزوجة الصالحة والمؤمنة لها أثر في نجاح الدعوة وانتصارها، وموقف السيدة خديجة رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في ذلك.أ

ومنها أن أحداث عام الحزن بما فيها من ألم ومرارة، كان لها الأثر البالغ في قلوب الأتباع، حيث غرست في قلوبهم قوة الإيمان بالله جل وعلا، والصبر على مر القضاء والقدر، والالتجاء إلى رب الأرض والسماء.
__________________
احدية الأمير: عشق بن شفلوت رحمه الله في فرسه

صفرا جنايبها كما الغربان
= قد عقبت عقب الخليف ثنين

لا من رفعت الصوت لقحطان
= يا ويل منهم يطلبونه دين
جبران أبن هتلان المهداني غير متواجد حالياً