عرض مشاركة واحدة
قديم 31-05-2007, 11:57 AM
  #1
صابر الأديب
عضو نشيط
تاريخ التسجيل: Apr 2007
المشاركات: 279
صابر الأديب is just really niceصابر الأديب is just really niceصابر الأديب is just really niceصابر الأديب is just really niceصابر الأديب is just really nice
افتراضي من مظاهر الحياة قبل سنين في الجنوب ( مقال من دون مرجع مكتوب )

كان الرجال والنساء يشتركون في نفس الأعمال في ( الزراعة والرعي ) لكن الرجال كانوا يقومون بحرث الأرض وسقيا المزارع ، وكانت النساء تشاركن في بعض تلك الأعمال لكنهن يقمن بأعباء أخرى خاصة وثقيلة مثل جمع الحطب ، وحلب المواشي ، وصنع الخبز والطعام واللبن ، و تنظيف مأوى الحيوانات ، وتنوير البيوت بالجص، وغسل الثياب ...الخ.

كان الرجل لا يستطيع القيام بأعباء المرأة كونه يعدّ ذلك امتهانا لكرامته، وقد يصمه الرجال بذلك العيب حين حدوث المشاحنات والمراء بينهم . في ذلك الحين ، كان الناس ينتظرون سقوط المطر بشوق كبير، ولهفة شديدة ، فحياتهم معتمدة تماما على مياه المطر ، فإذا تأخر نزوله أصيب الناس بالفقر الشديد ، بل يؤدي القحط الشديد إلى التشرد والتعرض للمجاعة والنكبات . كما كان الناس كلهم بارعين في التعرّف على مواعيد نزول المطر معتمدين على حركة الأفلاك ، وكان أشهر نجمين هما نجما ( الوسمي والثريا ) ، فمطر الوسمي لزراعة البر والشعير والعدس ، أما الثريا فلزراعة الذرة فقط .

من الألفاظ المتداولة والمتكررة دائما في أحاديثهم توجيه الطلب إلى الله بإغاثتهم وستر حالهم، فلا يكاد يخرج أحد من بيته إلا ويردد التهليل والتكبير لله ، ثم الدعاء بأن يهبه الرزق والستر والصحة .

حينما كنت صغيرًا لا يكاد أحد يفتح باب بيته أو لا يخرج من مسجد أو حتى لا يقوم لمزاولة أي عمل إلا بعد أن يردد الشهادة مثبتا الوحدانية لله وتوجيه الدعاء له بالستر والمغفرة .

كان الناس يعتمدون على المطر اعتمادا كليا ، وبالطبع ، فهم ينتظرون نزوله بلهفة شديدة ، وكان الله تعالى ، لا يخيّب آمالهم ورجاءهم فيه . وبعد نزول مطر مواسم زراعة الحبوب ، يشرع الناس في زراعة مزارعهم ( بلادهم ) باستخدام الآلات البدائية ، فيستخدمون المحراث الذي يجرّه ثوران في شقّ التربة . والمحراث عبارة عن خشبتين ، الأولى تسمى الشرع وهي أشبه بإشارة ( صحيح ) التي يستخدمها المعلمون كعلامة على صحة المكتوب ، ولكن بشكل مقلوب ، وفي نهاية الجزء السفلي منها صفيحة حديد حادّة جدا يطلق عليها ( السًّحب ) ويُربط الجزء العلوي من الشرع بوساطة حبال مصنوعة من جلود الأبقار ، بخشبة أخرى على شكل عمود يطلق عليه ( المقوَد ) . ويربط طرف المقود بوساطة حبال بخشبة توضع على رقبتي الثورين ويطلق عليها ( المضمد) . في نهاية الشرع مما يلي أسفله خشبة باتجاه الأعلى وبطول متر تقريبا يمسك بها الشخص فيزن حركات المحراث ويوجّه نوع استقامته ووجهته .

يتم قبل البدء في حراثة الأرض تدريب الثور على الحراثة بأيام، وبعد أن يتم التدريب يبدأ المزارع بشق الأرض بوساطة المحراث ويتولى هو عملية الضغط على المحراث ليشق الأرض ، ويمكن أن يطلق عليه تجاوزاً ( الحّراث ) ويتبعه آخر يتولى بذر الحبوب في شقوق الأرض ، ويمكن أن يطلق عليه اسم ( الذاري ) .
يستمر المزارع في حراثة الأرض من بعد صلاة الفجر إلى قرابة صلاة الظهر ، ثم يطلق ( يُعفي ) الثورين من المهمة ، ويعود الشخصان ومعهما الثوران إلى البيت.
الشئ المهم في عملية حراثة الأرض ، أن الثورين مدرّبان ، كما أنهما يستجيبان لهمهمة الحرّاث وطلباته . والحرّاث كذلك ماهر في شق الأرض بدقة من حيث تغطية المساحة وعمق الشق ، أما الذاري فماهر من حيث قذف البذور في بطن الشق ومن حيث كمّ الحبّات المقذوفة وانتظامها في خط مستقيم .
تبقى شقوق المزرعة واضحة خلال النهار ، وعند النظر إليها أتذكر قول الشاعر حينما وصف المحراث قائلا :
يخطط الأرض في نظم وإتقان
كأنه ريشة في كفّ فنان

يخطط الأرض لكن لا يلوّنها
فإن نما زرعها ازدانت بألوان
هذي الخطوط سطور بات ينقشها
في صفحة الأرض بالمحراث ثوران

بعد أن يأخذ الحرّاث قسطا من الراحة ، حيث يرتمي تحت ظل شجرة ممددًا على التراب ، متوسّدا حذاءه أو حتى قطعة صخر لمدة ساعة أو أكثر ، وبعد أن تُغذّى الثوران عن طريق مناولتهما قصب الذرة اليابس الملفوف بالبرسيم على شكل لقمات يتناولها الثوران من يد ربة المنزل لمدة ساعة أو أكثر ، وبعد أن يشرب الحارث والذاري الماء أو القهوة إن وجدت ، وبعد أن تميل أشعة الشمس عن كبد السماء ، يعودان لمزاولة حراثة الأرض وبذر الحبوب .
قبيل غروب الشمس لابدّ أن تسوّى الشقوق وتغطّى لعدة أسباب منها ، عدم السماح للطيور بالتقاط الحب من باطن الشقوق ، واستعدادا لتسوية سطح الأرض لسقيها بمياه الآبار مستقبلاً ، لذا يعمد المزارع إلى تسوية سطح الأرض باستخدام خشبة يطلق عليها( المدّسم ) . والمدسم عبارة عن لوح خشبي سميك يصل طوله إلى متر ونصف المتر وارتفاعه إلى حوالي 15 سم ، ويربط من طرفيه بسلسلتين من الحديد يطلق عليهما اسم ( السَّرة ) تُربطان بالمضمد الموضوع على رقبتي الثورين ، ثم يعلو الحرّاث المدسم ويجره الثوران حتى يُسّوى سطح الأرض وتغطى الشقوق .

مهمة ربة المنزل في ذلك اليوم من منتصف الليل تقريبا على سبيل المثال تتمثل في طحن كمية من الحبوب تكفي لزاد ذلك اليوم باستخدام حجر الرحى ، ثم تقديم الأكل للثورين مناولة لقمة لقمة لمدة قد تزيد عن الساعة ، ثم تأدية صلاة الفجر في وقتها الأول ، ثم إصلاح قهوة الصبح وهي عبارة عن القهوة السعودية ، ثم حلب الأغنام والأبقار ، وتنظيف مأواها ، وتجهيزها للخروج مع الرعاة للرعي ، ثم جمع الحطب وإشعال النار في التنور لعمل الخبز ، ثم اللحاق بالعمّال في مواقع عملهما ومعها الطعام ويطلق على تلك الوجبة آنذاك (القروع ) أو الغداء ، وهو ما يطلق عليه الآن وجبة الإفطار . يتوقف العمل في المزرعة لمدة نصف ساعة تقريبا لتناول العمال طعام الإفطار ، وبين صلاة الظهر والعصر ، تعاود المرأة نفس عملية صنع الخبز ، وتذهب به إلى المزارع في المزرعة وتسمى تلك الوجبة ( الوصل ) وهي شبيهة بوجبة الإفطار من حيث النوع .
المزارع ( جمع مزرعة ) آنذاك، تنقسم إلى قسمين ، فما يسقى من الآبار يسمى بالسّقا ، أما ما يعتمد على مياه الأمطار فيطلق عليها مزارع العثّري .
بعد انتهاء الفلاح من تسوية الأرض باستخدام المدسم يقوم بمهمة أخرى فإذا كانت المزرعة سقا وجب عليه تقسيمها إلى أحواض بواسطة آلة خشبية مصنوعة محليا لهذه الغاية يطلق عليها ( المجْنب ) وهو أشبه ( بالمقشة ) حاليا . أما إذا كانت المزرعة عثريا فينتهي دوره عند حدّ التسوية فقط ، ويبقى دوره دور المراقب المتلهف … .

تبعد سراة عبيدة عن مدينة أبها مسافة تسعين كيلومتر تقريبا . وهي تقع إلى شرق أبها وشرق مدينة خميس مشيط ومحافظة أحد رفيدة . وكانت أبها تضم المحكمة الشرعية والأمارة ومقر السجن وبعض الدوائر الحكومية المناسبة لذلك العصر .

كان المرء سابقا يتنقل من سراة عبيدة ومن القرى المجاورة لها إلى أبها سيرا على الأقدام أو راكبا دابّة ويستغرق السفر إلى أبها حوالي يومين . وقد استطاع أحد النشطاء من قطع المسافة تلك في يوم واحد ، وهذا الشخص هو عمي رحمه الله . لم تكن السيارات قد وصلت بعد إلى تلك المناطق ، ومن الممكن أن تكون قد وصلت إلى مدينة خميس مشيط نظرا لسهولة طرقها وممراتها .

من العجيب ، أن جدّي ووالدي وأقاربي وبقية الناس من سكان منطقتي كانوا يذهبون لأداء فريضة الحج سيرا على الأقدام ، وكانت الرحلة تستغرق حوالي شهرا ، وكان المسافر لا يحمل معه متاعا ولا مئونة ، بل كان ينتقل من قرية إلى أخرى عبر خط سير رحلته من أبها إلى الطائف مرورا ببلاد بالأحمر وبالأسمر وبني شهر وبني عمرو وبالقرن وشمران وخثعم وغامد وزهران وبني سعد وبني مالك ثم الطائف وأخيرا إلى مكة . ومن الطريف أيضا ، أن المسافر قد لا يركب حمارا أو جملا أو حصانا، نظرا لندرة الدواب من جهة ، ولوعورة المسالك والطرقات من جهة أخرى . كما أن الضيافة قد تكون نادرة في بعض القرى ، لانتشار عامل الفقر ، ولكثرة المسافرين الآتين من جنوب المملكة وبلاد اليمن .

كان المسافر حين يصل إلى قرية ما ، لا يضطر إلى طرْق الأبواب بل يصرخ بعبارات جميلة معروفة للجميع يطلق عليها ( التسابيح ) فيهبّ المؤسرون من أهل القرية لاستضافة ذلك الوفد القادم. كما أن المساجد في ذلك الحين ، كانت تزود بغرف صغيرة يطلق على الواحدة منها ( المنزالة ) تستخدم من قبل المسافرين كمأوى ، خاصة وقت النوم.
ورغبة من بعض المسافرين في الحصول على منتهى الكرم من أهل القرية المستضيفة ، يدّعي بعضهم قدرته على علاج بعض الأمراض المستعصية ، وأمراض العقم ، ويلجأون للعلاج باستخدام الطب الشعبي وقد يكون ادّعاؤه باطلا ولكن ما دفعه إلى ذلك هو شدة الجوع والعطش . وبقدرة الله تعالى علمتُ أن بعض المرضى وذوي الحالات الخاصة قد شفوا كرما من الله ، ورحمة بالطبيب والمريض . كما أن بعض النساء العقيمات قد حملن وولدن بنين وبنات . ويقوم بعض المدّعين للعلاج بسحب المياه التي تتكوّن في العينين ، وهو ما يطلق عليها الآن ( مرض الماء الأبيض أو الأزرق ) . وقد يكون للنية الطيبة أثر في شفاء بعض الناس من تلك الآفات والأمراض ، فكما قيل في الماضي( على نيّاتكم ترزقون ) .

عندما يعود الحاج إلى وطنه ، فكأنها قد كُتبت له الحياة من جديد، لما كان يتعرض له الحاج من أمراض فتّاكة ، ومخاطر مميتة ، وسرقات منظّمة ، وأحيانا لعزوف بعضهم عن العودة إلى ديارهم الموصوفة في نظرهم بالفقر والتخلف، وقد يكون سبب عدم العودة لعدم قدرة المسافر على قطع المسافة عائدا إلى دياره . وبالفعل ، يكون كأنه قد ولد من جديد ، لانعدام وسائل الاتصال ، كالبريد والبرق والهاتف . وعندما يبلغ غياب المسافر بضعة أشهر يقيم ذووه مأتمه على اعتبار أنه مات . ومن محاسن الصدف ، أن بعض هؤلاء المفقودين قد عادوا إلى ديارهم بعد أن أقام أهلوهم عزاءهم .
صابر الأديب غير متواجد حالياً