عرض مشاركة واحدة
قديم 01-08-2006, 04:44 AM
  #2
نسيم الجنوب
عضو مشارك
تاريخ التسجيل: Dec 2004
المشاركات: 147
نسيم الجنوب is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثاني: اعوام الدراسة والمعاناة في فيينا . . .


حين ماتت والدتي ، حدد القدر اجزاء كثيرة من مصيري المستقبلي .

خلال الشهور الاخيرة من مرضها ، ذهبت الى فيينا لاجتياز الاختيار المبدأي لدخول المعهد الفني. كنت قد اعددت بعض اللوحات ، متاكداً من ان الامتحان سيكون في غاية السهولة . فقد كنت الافضل في الفصل في مجال الرسم دائماً ، ومنذ ذلك الوقت ، تقدمت قدراتي بسرعة، فاصابني الغرور .

ومع ذلك، شعرت بالمرارة لان قدراتي على الرسم الهندسي فاقت بكثير قدراتي كرسام. وكل يوم كان ولعي بالفنون المعمارية يتزايد - خصوصاً بعد رحلة لمدة اسبوعين قضيتها في فيينا في سن السادسة عشر. وقد كان هدف تلك المرحلة هو دراسة متحف الفن، وان وجدت نظراتي تتطلع اكثر لهيكل المتحف. فمنذ الصباح الباكر وحتى المساء، تجولت في الاروقة متابعاً كل ما يشغف فكري، وان كان جل اهتامي قد انصب على المتحف ذاته. لساعات وقفت اما مبنى الاوبرا، وبدا لي المكان ساحراً مثل قصور الف ليلة وليلة.

والان كنت في المدينة الخلابة للمرة الثانية، منتظراً على احر من الجمر نتائج الامتحان. كنت متاكداً من النجاح لدرجة ان سقوطي اصابني بذهول مطبق. وجين تحادثت مع المسؤول، وطلبت منه التوضيح، اكد لي ان اللوحات التي قدمتها تشير الى عدم توافر الموهبة المطلوبة للرسم لدي، وان اكد ان مجال الرسم الهندسي هو الملائم لي ولم يصدق انني لم ادرسه البتة. مكتئباً تركت البنى، لاول مرة في حياتي غير عارف بما يجدر بي فعله.

عرفت الان انه لابد لي ن دراسة الهندسة . وكان الطريق صعباً: فكل مارفضت دراسته خلال صراعي مع والدي بات ضرورياً. ما كان ممكناً دخول كلية الهندسة بدون الشهادة الثانوية. وهكذا بدا ان حلمي الفني لن يتحقق ابداً.

حين عدت لفيينا مرة تالثة، بعد وفاة والدتي، كان الطموح والعناد قد عادا لي. قررت ان اصير مخططاً هندسياً ، وكل الصعاب كانت التحدي الذي لابد لي من اجتيازه. كنت مصمماً على مواجهة العقبات، وامامي صورة ابي، الذي بدأ حياته مصلحاً للاحذية ، وصعد بجهوده الخاصة الى موقع حكومي جيد. توفرت لدي امكانيات اكثر، وهكذا بدا ان الصراع سيكون اسهل، وما بدا لي آنذك سوء الحظ، امتدح اليوم كمساعدة القدر الحكيم. فبينما ازدادت معاناتي اليومية، ازدادت ارادة المقاومة داخل ذاتي وفي نهاية المطاف تفوقت على غيرها من العوامل . تعلمت خلال تلك الايام الشدة ، وتحولت من طفل مدلل الى رجل قُذف به الى قلب المعاناة والفقر المدقع. ومن ثم تعرفت على اولئك الذين سادافع عنهم في ايام مستقبلية.

خلال تلك المرحلة ادركت وجود خطرين مدقعين يحيطان بالشعب الالماني، وهما اليهودية والشيوعية. ولا تزال فيينا، التي يتصورها الكثيرني مدينة اللذات البريئة، تجلب لذهني اسوء صور المعاناة الانسانية التي عرفتها لمدة خمسة اعوام اضطررت خلالها للعمل ، اولاً كمستاجر يومي، ثم كرسام.

ما جلبته من مال ما كفى حتى لاشباع الجوع اليومي. كان الجوع صديقاً لي آنذاك، وما تركني للحظة، بل شاركني في كل شيء. كل كتاب اقتنيته ، وكل مسرحية شاهدتها، جعلته اقرب الي. ومع ذلك، درست خلال تلك الايام اكثر من أي فترة اخرى. باستثناء زياراتي النادرة للاوبرا التي دفعت ثمنها جوعاً ، ما كان لدي أي لذة سوى القراءة. وهكذا خلال تلك الفترة قرات كثيراً وبعمق. كل وقت الفراغ المتاح لي بعد العمل قضيته في القراءة، وبهذه الطريقة جمعت خلال بضع اعوام المعارف التي تغنيني حتى الساعة .

خلال تلك الاعوام، تكونت في ذهني صورة للعالم تبقى القاعدة التي استخدمها في كل قرار اتخذه ، وكل تصرف اقوم به. وانا اليوم مقتنع بان كل سلوكياتنا تنبع من آراء تنتج اثناء شبابنا. فحكمة النضوج تحوي الاراء الخلاقة التي ينتجها الفكر الشاب ولا يمكن تطويرها آنذاك، مضافاً لها الحذر الذي يتعلمه الانسان بالتجربة. وهذه العبقرية الشبابية ستكون الاداة الاساسية لخطط المستقبل، التي سيمكن تحقيقها فقط لو لم تدمرها تماماً حكمة النضج.

كانت طفولتي مريحة، بلا قلق يذكر. كنت انتظر مجيء الصباح، بلا أي معاناة اجتماعية. فقد انتميت لطبقة الراسمالية الصغيرة ، وكنت لهذا السبب بعيداً عن الطبقات العاملة. وبالرغم من ان الفرق الاقتصادي بين الطبقتين كان محدوداً ، الا ان الفاصل بينهما كان شاسعاً . وقد يكون سبب العداء بين الطبقتين هو ان الموظف، الذي ما استطاع الا بصعوبة ترك الطبقات العاملة ، يخشى من العودة الى تلك الطبقة المحتقرة، او على الاقل ان يتصوره الناس جزءاً منها. هناك ايضاً الذكريات المخيفة للفقر، وانعدام المعايير الاخلاقية بين الطبقات المنحطة، وهكذا يخشى الراسمالي الصغير أي اتصال مع هذه الطبقة. وهذا الصراع عادة يدمر كل شعور بالرحمة. فصراعنا للبقاء يدر عواطفنا لاولئك الذين تخلفوا ورائنا.

اشكر القدر الذي اجبرني على العودة لعالم الفقر والخوف، لان التجربة ازاحت عن عيوني غشاء نتج عن تربية الرأسمالية الصغيرة. عرفت الان معاناة الانسانية ، وتعلمت التفرقة بين المظاهر الفارغة والكائن الموجود في داخلها.

كانت فيينا التي شاهدتها احدى اكثر مدن اوربا تخلفاً. الثراء الفاحش والفقر المدقع تجاورا. في مركز المدينة وحاراتها شعرت بنبض 52 مليوناً . اما المحكمة الفخمة والمناطق المجاورة لها، وخصوصاً المباني الحكومية،

فجذبت لها الذكاء والثراء. وهذه المناطق كانت كل ما يوحد الشعوب المختلفة الموجودة في هذه الدولة. فالمدينة كانت العاصمة الثقافية والسياسية والاقتصادية. مجموعة مديرى الشركات العامة والخاصة، موظفي الحكومة، الفنانين، والمدرسين والمثقفين، عاشت في مواقع قريبة بجوار الفقراء، وواجهت جيوشاً من العمال كل يوم. خارج القصور المعروفة تشرد الاف من العاطلين، وفي ظلال اسوارها رقد من لا يملكون مسكناً.

معرفة هذه الوضاع المزرية ودراستها لن يتم من مواقع عالية : لا احد ممن لم يسقطوا في اشداق هذه المعاناة يمكن له ان يفهم الآمها. ومن حاولوا دراستها من الخارج غرقوا في لغو الحديث والعاطفة ، وانا لا ادري ان كان تجاهل الاغنياء للفقير اكثر ضرراً من افعال اولئك الذين يدعون الشفقة عليه بتكبر وغرور. والنتيجة دائماً سلبية على كل حال، بينما تزداد الوضاع سوءاً. ولا يجدر بالفقير ان يرضى بصدقة بدلاً من ان تعاد له بعض حقوقه.

لم اعرف الفقر من بعيد: بل ذقت طعم الجوع والحرمان، ولم ادرسه بطريقة موضوعية، بل خبرته داخل روحي. وكل ما استطيع فعله الان هو وصف المشاعر الاساسية، وذكر بعض ما تعلمته من هذه التجارب.

لم يكن العثور على وظيفة صعباً ، نظراً لافتقاري للتجربة. وهكذا اضطررت للعمل كمساعد عامل او كعامل باجر يومي. حلمت بالهجرة الى امريكا. تحررت من الافكار القديمة عن الحرفة والمركز، المجتمع والتراث، وسعيت وراء أي فرصة متاحة، وتقبلت أي عمل، مدركاً ان أي عمل شريف لا يجلب العار لصاحبه. عرفت بسرعة ان العمل متوفر ويمكن الحصول عليه بسهولة، ولكن يمكن ايضاً بسهولة ان يفقده المرء. بدا لي ان عدم ضمان الوصول لرغيف العيش كل يوم كان اسوء ما عانيته.

العامل المدرب لا يجد نفسه في الشارع بيسر مثل العامل غير المحترف، الا انه قد يواجه ذات المصير ايضاً. ولذلك ترى العمال يضربون عن العمل: مما يؤدي للاضرار باقتصاد المجتمع ككل.

ذلك الفلاح الذي يهاجر الى المدينة، متخيلاً سهولة العمل، وقلة ساعاته، والاضواء الكهربائية الملونة، كان قد اعتاد على نوع من الضمان بخصوص لقمة العيش. ففي القرية، لن يترك عمله الا اذا ضمن لنفسه عملاً افضل منه. ونظراً لوجود حاجة دائمة للايدي العاملة في الفلاحة، تبقى امكانيات البطالة محدودة. ومن الخطأ تصور ان الفلاح الذي يهاجر للمدينة اكثر كسلاً من ذلك الذي يبقى في عقر داره. العكس هو الصحيح: فالمهاجر عادة يكون الاكثر صحة ونشاطاً. ولذلك لا يخاف من مواجهة الصعاب. هو يصل ايضاً للمدينة ومعه مدخراته. ولذلك لا يخاف ان لا يصل للوظيفة المرغوبة من اول يوم. ولكن الامور تزداد سوءاً ان عثر على وظيفة ثم فقدها. فالعثور على غيرها، خصوصاً في فصل الشتاء، سيكون شاقاً بل ومستحيلاً . ومع ذلك، سيعيش وستعاونه الفوائد الحكومية للعاطلين. ولكن، حين تنضب هذه الموارد مع مرور الوقت، ستبدأ المعاناة الحقيقية. سيتشرد الفتى الجائع في الشوارع، وسيبيع او يرهن ما يملك، وستسوء حال ثيابه، وينحط الى مستوى مادي وروحي في غاية التعاسة. فتتسمم روحه. وان فقد سكنه في الشتاء، وهو مايحدث كثيراً ، فستكون معاناته فظيعة. وفي نهاية المطاف، سيعثر على وظيفة اخرى، ثم تتكرر ذات القصة مرة ثانية وثالثة، وشيئاً فشيئاً يتعلم عدم الميالاة، ويصير التكرار عادة. وهكذا يتحول هذا الرجل النشيط سابقاً الى كسول يستخدمه الاخرين لمصالحهم. وقد عاش حياة البطالة لوقت طويل بدون ذنب حتى ما عاد بهمه طبيعة العمل الذي يقوم به، حتى ان كان هدفه تدمير القيم السياسية الثقافية الاجتماعية. وحتى ان لم تعجبه فكرة الاضراب، فلن يبالي بها. وقد شاهدت الاف القصص المشابهة للتي اقصها. وكلما شاهدت المزيد ، ازدادت كراهيتي للمدينة الكبيرة التي تمتص دماء الرجال وتدمرهم.

فحين جاءوا فراداً، انتمى كل منه للمجتمع، وبعد اعوام، ما انتموا لاي شيء.

وانا ايضاً عانيت وعثاء حياة المدينة: شعر جسدي بصعابها وامتصت روحي معاناتها. وقد شاهدت ايضاً ان التنقل السريع بين العمل والبطالة، وما ينتج عنه من تقلب اقتصادي، يدمر شعور الفرد باهمية الاقتصاد. بدا ان الجسد يعتاد على التبذير حين يتوفر المال، ويستحمل الجوع حين انعدامه. وبصراحة، ان الجوع يقضي على أي ارادة تسعى للتنظيم الاقتصادي حين يتوافر المال لانه يضع امام ضحيته المعذبة سراب الحياة السعيدة لدرجة ان الرغبات المريضة ستدمر أي قدرة على التحكم ساعة الوصول لاي موارد. وهكذا حين يصل الرجل للمال ينسى كل افكار تتعلق بالنظام والترتيب، ويعيش حياة البذخ ويسعى وراء اللذات الانية. وغالباً ما سيكون لهذا العامل زوجة واطفال وسيعتادون جميعاً على التبذير ثلاث ليال من الاسبوع، والجوع باقيه. وفي ساعات الظهيرة سيجلسون سوياً امام الصحون شبه الفارغة، منتظرين يوم وصول المرتب، متحدثين عنه، حالمين طوال ساعات الجوع بلذات التبذير.

وهكذا يعتاد الاطفال منذ طفولتهم على هذه الاوضاع السيئة.

وقد شاهدت هذه الاوضاع مئات المرات وتقززت منها اولاً، ثم فهمت حقيقة الماساة التي يعيشها هؤلاء الناس الذين باتوا ضحايا لظروف اجتماعية سيئة. وما كان اكثر بؤساً هو اوضاع السكن السيئة . بل انني اشعر بالغضب حتى هذه الساعة حين اتذكر الغرف الصغيرة والاكواخ الخشبية المحاطة بالقاذورات والاوساخ من كل جانب. وقد خشيت ذلك اليوم المرعب، حين سيخرج هؤلاء العبيد من اقفاصهم للانتقام من قسوة البشرية عليهم.

والمسؤولون والاثرياء يتركون الامور تسير على مجاريها: وبدون أي تفكير يفشلون حتى في الشك بان القدر يخطط للانتقام من هذا الجور. اما انا فعرفت ان تحسين هذه الاوضاع ممكن بطريقتين: فلابد من وجود احساس عميق بالمسؤولية لخلق اسس افضل للتقدم ، ومعه ارادة وحشية تدمر كل ما سيقف في طريقها ويعوق تقدمها. وكما لا تركز الطبيعة جهودها في الحفاظ على ما هو موجود، بل تسعى لخلق اجيال ستقبلية افضل، سيكون من الضروري صناعة قنوات جديدة اكثر صحية منذ البداية.

تجاربي المختلفة في فينا علمتني ان المشاريع الخيرية غير مفيدة ، والمطلوب تدمير الفوضى الاقتصادية التي تؤدي الى انحطاط الافراد الخلقي. بل ان عدم قدرتنا على استخدام الوحشية في الحرب ضد المجرمين الذين يهددون المجتمع سببها هو عدم تاكدنا من برائتنا التامة من الاسباب النفسية والاجتماعية لهذه الظواهر. شعورنا الجمعي بالذنب تجاه مآسي الانحطاط الاخلاقي يشل قدرتنا على اتخاذ اقل الخطوات قسوة في الدفاع عن مجتمعاتنا. وفقط حين نتحرر من سلطة عقدة الذنب هذه سنقدر على الوصول للقوة والوحشية والضروريين لتدمير الاعشاب الضارة والافكار المارقة.

وبما ان النمسا كانت عملياً بلا قانون اجتماعي صالح، لم تكن الدولة قادرة على التعامل مع هذه الامراض البتة.

ولا اعرف حتى الساعة ما ارعبني اكثر: هل كان سوء الاوضاع الاقتصادية لمن عرفت، ام انحطاطه الخلقي، ام الضعف الفكري؟

تصور مثلاً هذا المشهد: في شقة تتكون من حجرتين سكنت اسرة عامل تتكون من سبع اشخاص. بين الاطفال الخمسة، كان هناك طفل في الثالثة، وهو السن الذي تتكون خلاله انطباعات الفرد الاولى. هناك بعض الموهوبين الذين يتذكرون هذه الانطباعات حتى ارذل العمر. مجرد ضيق الشقة وازدحامها لا يؤدي لخلق ضروف صحية ونفسية ملائمة للنمو. قد تحدث مثلاً خلافات بسيطة بين افراد كل اسرة، وعادة يذهبون كل الى حجرة مختلفة، وينتهي الامر. اما في شقة صغيرة، فكل سيرى نفسه في مواجهة الاخرين طوال الوقت. بين الاطفال، الخلاف شيء طبيعي، وهم ينسون اسبابه بسرعة. ولكن ان شاهد الاطفال الابوين في حال خصام دائم، تستخدم خلاله الالفاظ النابية، وربما العنف، فستكون النتائج سلبية. سيتصور الطفل العالم بطريقة تخيف من يقدر على تصورها. فقد تم تسميممه اخلاقياً، وما تغذى جسده كما ينبغي. ومن ثم يذهب هذا المواطن الصغير الى المدرسة. بعد صراع مضن، قد يتعلم القراءة والكتابة، اما الواجب المنزلي، فانجازه مستحيل. بل ان والديه سيقذعان المدرسة بابشع الالفاظ. كل ما سيسمعه الطفل لن يعلمه احترام مجتمعه. سيكره المدرسين وكل انواع السلطة. وحين يُطرد من المدرسة بعد ذلك، سيلاحظ الناس غبائه، وجهله ، وكذلك سوء اخلاقه. أي موقع سيستطيع هذا الشاب االيافع لوصول اليه في ظروف مثل هذه؟ كل ما لديه هو كراهية المجتمع والبشرية. وبعد هذا، في سن الخامسة عشر، سيبدأ ذات الحياة التي عاشها والده، فيذهب للخانات، ويعود متاخراً لمنزله، وينتهي به الامر في السجن.

وكم من مرة غضب الرأسمالي اذ سمع العامل الفقير يقول انه لا يهتم سواء اكان المانياً ام لا، ما دام يجد الغذاء والكساء: فقدان الشعور القومي بهذه الطريقة فظيع. كم من الالمان في عصرنا يشعرون بالفخر ان تذكروا انجازات امتهم الثقافية والفنية؟ وهل يدرك المسؤولين ان الشعور بالفخر والعزة الوطنية لا يصل الا لقلة من افراد الشعب.

لذلك لا بد من تحسين الاوضاع المعيشية ومن ان يركز التعليم على قيم اساسية تتفشى في اذهان الناس عبر التكرار.

ولكن المانيا، بدلاً من الدفاع عن القيم القليلة الموجودة، تسعى لتدميرها. والفئران التي تبث سمومها في القلب والذاكرة تنجح في الوصول لغاياتها، بمساعدة الفقر والمعاناة: يوماً بعد يوم، في المسارح ودور السينما، نرى السم يُقذف على الجماهير، ثم يتحير الاثرياء عن اسباب انحطاط القيم الاخلاقية للفقراء، وانعدام الشعور الوطني بينهم.

قضية خلق الشعور الوطني اذاً تعتمد على توفير ظروف ملائمة لتعليم الافراد لان اولئك الذين يتعلمون عن طريق الاسرة والمدرسة فقط هم الذين سيستطيعون تقدير الانجازات الثقافية والاقتصادية والسياسية لوطنهم لدرحة الانتماء لذلك الوطن. استطيع ان احارب فقط من اجل ما احب، واحب فقط ما احترمه، واحترم على الاقل ما اعرفه.

ومع ازدياد اهتمامي بالقضايا الاجتماعية ، بدات اقرء المزيد عنها ، وفتح عالم جديد ابوابه لي.


( 2 )

خلال الاعوام 1900 -1910 تغيرت اوضاعي لانني ما عدت اعمل كعامل ، بل بدات العمل كخطاط وراسم بالالوان المائية. ومع ان المال ما كان كافياً ، الا انه كفى لتحقيق طموحي آنذاك. اذ استطعت الرجوع للمنزل وانا قادر على القراءة بدون ان يدفعني التعب من عمل اليوم للنوم فوراً. بات بعض وقتي ملكاً لي.

تصور الكثيرون انني غير طبيعي : ولكنني تابعت ما اعشق، الموسيقى والعمران. كنت اجد في الرسم والقراءة كل اللذات وسهرت كثيراً حتى الصباح مع لوحة او كتاب. وهكذا كبرت طموحاتي، وحلمت بان المستقبل سيحقق امالي، وان بعد حين. كذلك تابعت قضايا السياسة وقرات المزيد عنها لانني ارى ان التفكير في شؤونها وظيفة تقع على عاتق كل مواطن يفكر. وبدون معرفة شيء عن طبيعتها لا يحق للفرد النقد او الشكوى.

ما اعنيه بالقراءة يختلف عا يقوله دعاة الثقافة في عصرنا. فقد عرفت رجالاً قراوا كثيراً ، ولكنه ما كانوا مثتقفين. نعم، هم عرفوا الكثير من المعلومات، ولكنهم ا استطاعوا تسجيلها وتنظيمها. وهكذا افتقدوا فن تمحيص القيم من الغث، والتحرر مما كان بلا فائدة، والاحتفاط بالمفيد معهم طول العمر. فالقراءة ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الغايات. وظيفتها الاساسية هي ملأ الفراغ المحيط بالمواهب والقدرات الطبيعية للافراد. المفروض هو ان نقدم للفرد المعدات التي يحتاجها لعمله الحياتي بغض النظر عن طبيعة هذا العمل. كذلك، يجدر بالقراءة ان تقدم رؤية معينة للوجود. وفي كلا الحالين، الضروري هو الا تتحول محتويات الكتاب الى الذاكرة بجوار كتب لاحقة، بل ان توضع العلومة المفيدة بجوار غيرها لتوضيح الرؤية الاساسية في فكر القاريء. وان لم يحدث هذا، ستتجمع المعلومات بشكل فوضوي في الذهن، بلا قيمة سوى خلق الكبرياء. فالقاريء من هذا النوع سيتصور انه قد عرف المزيد ، وان كان في الواقع يبتعد اكثر فاكثر عن الواقع حتى ينتهي المطاف به في مستشفى المجانين.. او مجلس الشعب، وهو ما يحدث كثيرا. وهو لن يستطيع اذاً الاستفادة مما قراه.

اما القاريء الناجح، فيستطيع بسرعة ادراك ما سيستفيد منه وترك الباقي. المعلومة المفيدة ستصحح الاخطاء، وتوضح الصورة الكلية. ثم، حين تضع الحياة سؤالاً امام القاريء، ستعرف ذاكرته كيف تجلب الاجزاء المطلوبة للاجابة، وتقدمها للعقل حتى يختبرها ويتحقق بشانها، حتى تتم الاجابة على السؤال. وهذه هي القراءة المفيدة. ومنذ صباي حاولت القرائة بهذا الاسلوب، وفي هذا المسعى عاونني الذكاء والذاكرة. اما تجارب الحياة اليومية فقد دفعتني لقراءة المزيد والتفكر بشانه. وفي هذا السعى عاونني الذكاء والتجارب. وهكذا وجدتني اخيراً قادراً على الربط بين النظرية والواقع ، وعلى اختبار النظرية في ظل الواقع، ونجوت بهذه الطريقة من الكبت الذي تخلقه النظرية لمن لا يعرف سواها، ومن التفاهة التي يحياها من لا يعرف سوى الواقع اليومي المعاش.

خلال تلك المرحلة دفعتني تجارب الحياة الى دراسة سؤالين آخرين، كانت الماركسية احدها. فما عرفته عن الفكر الديمقراطي كان قليلاً وغير دقيق. آنذاك، اسعدتني فكرة الصراع من اجل حقوق الانتخاب. فحتى في ذلك الزمن الباكر، ادركت بان هذا سيضعف من سطوة السلطة الجائرة في المنسا. وكلما زادت اللغات المستخدمة في مجلس الشعب النمساوي الذي بات مثل - بابل - بدا تشتت تلك الدولة الحتمي وشيكاً ، ومعه ساعة تحرر الشعب الالماني.

نتيجة لكل هذا، لم اتضايق من حركات الديمقراطية الاجتماعية. بل ان ادعائاتها بمساعدة الطبقات الفقيرة بدت لي من العوامل التي وقفت في صفها. ولكني رفضت في هذه الحركات عدائها لكل محاولات المحافظة على الشخصية الالمانية، ومغازلتها "للرفاق السلاف"، الذين ما تقبلوا من افكارها الا ما سيستفيدوا منه، وتركوا الباقي باحتقار تام.

حدث لقائي الاول مع هذه الحركات خلال عملي كعامل بناء.

وكانت التجربة سيئة منذ البداية: كانت ثيابي نظيفة، ولغتي جيدة، وسلوكي حذراً. كنت لا ازال اسعى وراء مصيري لدرجة تجاهل الناس حولي. بحثت عن العمل فقط خوفاً من الجوع، وللاستمرار في الدراسة. ربما ما كانت القضية ستهمني البتة لو لم يطلبوا مني في اليوم لرابع الانضمام لتجمعهم. ونظراً لجهلي بالموضوع، رفضت موضحاً انني لا اعرف ما يكفي عنهم للانضمام اليهم. ربما لهذا السبب لم يعادونني ، بل ورغبوا في اقناعي بالانضمام الى صفوفهم. ولكنني خلال الاسبوعين القادمين عرفت افكارهم جيداً، وما عاد باستطاعتي البتة الانضمام لمجموعة بغضتها.

ساعة الظهيرة حين كنا نتناول الطعام في الحانة: كنت اشرب الحليب وآكل الخبر في زاوية متطلعاً لهم بحذر او متاملاً حظي السيء. وهكذا استمعت لهم، بل انهم جاءوا بجواري حتى استمع واتخذ موقفاً. وما كان امامي منفذ آخر لان ارائهم اغضبتني جداً: قالوا ان الحس الوطني نتج عن اعلام الطبقات الراسمالية، وانه عبارة عن سلاح يستخدمه الاثرياء لاستغلال العمال، والمدرسة ليست سوى مؤسسة لانتاج العبيد واسيادهم، اما الدين فادعوا انه اسلوب لتخدير الشعوب حتى تسهل السيطرة عليهم، والاخلاق ليست سوى دلالة على الغباء. ما كان هناك ما لم يلقونه في الوحل. في البداية لذت بالصمت، ولكنني سرعان ما بدأت باتخاذ مواقف فكرية مخالفة، وقرأت فكرهم وناقشتهم بشانه. واستمر النقاش حتى قرروا استخدام سلاح يقهر العقل بسهولة: وهو البطش والارهاب. وهكذا طلبوا مني الذهاب وهددوني بانهم سيلقونني في لخارج ان رفضت. وهكذا خسرت عملي، وفي نفسي سؤال مرير: هل هؤلاء فعلاً بشر؟ وهل يستحقون شرف الانتماء لامة عظيمة؟ وكان السؤال صعباً. وان كانت اجابته بالايجاب، فان الصراع في سبيل القومية لن يستحق التضحية والمعاناة، اما ان كانت الاجابة بالنفي، فان امتي ستفتقر بالفعل للانسان.

ومن المؤكد ان ملايين العمال بدأوا برفض الحركات اليسارية ، ولكن الراسماليين ذاتهم دفعوهم لاحضانها بطريقة مجنونة: اذ ان الاثرياء رفضوا كل محاولات تحسين اوضاع العمال، سواء اكان الهدف تحسين الاوضاع الصحية في المصانع عبر تطوير الالات، او منع عمالة الاطفال، او حماية المرأة الفقيرة اثناء فترة الحمل. وقد كان رفض هذه الافكار مخزياً بالفعل، ودفع العمال لاحضان اليسار. ولن تستطيع الراسمالية ابداً التحرر من اضرار رفضها للاصلاح الذي بذر الكراهية بين الغني والفقير ودفع بالعمال الى الاحزاب اليسارية.

خلال تلك الفترة، رفضت ايضاً اتحادات العال، وان كنت خاطئاً في هذا الاتجاه. ففي سن العشرين عرفت ان الاتحاد العمالي سعى للدفاع عن الحقوق الاجتماعية لهذه الطبقة، وان هدفه الاساسي كان تحسين اوضاعها الاجتماعية. فالعامل لا يستطيع ان ما رضي بعمله، استبداله بآخر. فاما ان يكون تحسين الاوضاع الاجتماعية في مصلحة المجتمع او لا يكون. وان كان ، فلابد من الصراع لتحسين هذه الاوضاع. ولكن العامل لا يقدر وحيداً على مواجهة قوة الراسمالي الثري. ولذلك كانت الاتحادات ضرورية . ولكنها منذ بدايات القرن العشرين بدات تفقد دورها الاجتماعي الاساسي ، ومع مرور الاعوام تحولت الى سلاح تستخدمه الاحزاب الشيوعية في صراعها الطبقي. وهكذا بات هدفها تدمير اقتصاد المجتمع، وتغييره، بدلاً من اصلاح الاوضاع السيئة - التي كان اصلاحها خطراً اذ انه قد يقنع العمال بتقبل اوضاعهم، ولا يسمح للشيوعيين باستغلالهم بذات الطريقة البشعة. تطلع زعماء الاتحادات بخوف لامكانيات الاصلاح لدرجة انهم رفضوا أي محاولة للتغيير للافضل، وهاجموها يقسوة شديدة. ثم تقدموا بطلبات مستحيلة ما كان للراسماليين بد من رفضها، ثم ادعوا ان هناك مؤامرة لتدمير العمال واستغلالهم. ونظراً لضعف قدرات هذه الطبقة الفكرية، ما كان النجاح صعباً.

وهكذا عرفت طبيعة العلاقة بين هذه العقيدة المدمرة والطبائع الحقيقية لاناس ما عرفت بعد أي شيء عنهم. وقد كانت معرفتي باليهود فقط هي ما اوضح لي الطبيعة الحقيقية الخفية لنشاطات اتحادات العمال، الديمقراطية ظاهراً، الشيوعية في الخفاء.

لا اتذكر بالضبط متى بدات بالتفكير بشكل جدي بالقضية اليهودية. لا اعتقد انني استمعت لهذه الكلمة في منزلنا اثناء طفولتي. اعتقد ان والدي كان سيتضايق من الاهتمام بهذه القضية بل ويعتبر التركيز عليها نوعاً من انواع التخلف. وبسبب تجاربه المختلفة، وصل لنوع من العالمية التي، بالرغم من وطنيته، اثرت على بشكل ما. وما رايت في المدرسة ما دفعني لتغيير افكاري. واتذكر الان وجود شاب يهودي معنا في المدرسة، ولم نكن نثق به بسبب تسريبه للاخبار من شخص لآخر. ولكن هذا لم يدفعني للتفكير بالامر بشكل جدي.

في سن الخامسة عشر، استمعت لحوارات دينية وسياسية تناولت القضية اليهودية، ولكني ضقت ذرعاً بها نظراً لطبيعتها الدينية. كان هناك بعض اليهود في لينز. ومع مرور القرون، تغيرت طباعهم ومظهرهم لدرجة انني اعتبرتهم الماناً. ياللبلاهة! تصورت انه لا فرق بيننا وبينهم سوى الدين. حقيقة معاناتهم للاضطهاد بسبب دينهم، كما تصورت واهماً ، دفعتني للغضب حين سمعت الناس ينتقدونهم.

ثم جئت الى فيينا.

وبسبب اهتمامي بالمعمار والصعاب التي واجهتها، لم الاحظ وجود مئتا الف يهودي بين المليونين الذي يقطنونها. غمرتني الافكار والقيم الجديدة. وفقط مع عودة الوعي والتروي وضحت الرؤية. في البداية ، اغضبتني للغاية انتقادات بعض الصحف المحلية لليهود، وتصورت انها رجعة لتطرف العصور الوسيطة. وبما ان المجلات المعنية ما كانت حسنة السمعة، تصورت ان القضية لا تزيد عن كراهية وحسد. واكد صحة هذا الراي الاسلوب النبيل الذي استخدمته الصحف الكبيرة في الرد على هذه الاتهامات، او رفضها احيان كثيرة مجرد التعليق عليها، وقتلها بالصمت المطبق.

قرات الصحافة الدولية واذهلني وسع افقها ومواضيع مقالاتها. احترمت سموها الفكري، وان ضايقني احياناً ما اعتبرته نوع من النفاق على حساب الحقيقة. فقد رايت مغازلة هذه الصحف للسلطة. وما حدث امر يتعلق بالحكومة، الا ووصفوه بحماس منقطع النظير. وفي ذات الان، كانوا احياناً يهاجمون الحكومة القيصرية في المانيا. كانت موضوعيتهم اذاً عبارة عن احترام مصطنع لاتفاقية بين دولتين. شعرت بسطحية هذه الصحافة، وبدات الاحظ نقاط ضعفها. قراتها الان بحذر، ولاحظت ان الصحافة المعادية لليهود، كانت اكثر صراحة احياناً. بل ان بعض ما نُشر على صفحات الاخيرة كان يدفع للتفكير.

وفي يوم لاحظت يهودياً في شوارع فيينا وتطلعت له متسائلاً: هل هذه الرجل الماني؟ كالعادة قمت بالقرائة عن هذا الموضوع، وكانت الكتب سيئة. الكتاب تصوروا ان القاريء يعرف كل ما هو ضروري عن اساسيات الموضوع، وجله قدم افكاراً غير علمية البتة. تراجعت، وخشيت ان تتكون لدي اراء غير عادلة بهذا الشان.

ما بات واضحاً لي هو ان اليهود ما كانوا الماناً ، بل شعباً خاصاً. فمنذ ان بدأت بدراسة الموضوع بت الاحظهم. وكانت تصرفاتهم واخلاقياتهم واشكالهم تخالف تماماً الالمان العاديين. بل اننني عرفت ان هناك بينهم حركة تدعى الصهيونية تؤكد على انهم شعب خاص. وكان واضحاً ان بعضهم وافقوا على هذه الفكرة، وعارضها آخرين. ولكن المعارضين للصهيونية بدوا لي كاذبين لانهم ما رفضوا الصهاينة كمارقين، بل كيهود يقدمون افكاراً خطيرة واساليب ضارة للتعبير عن هويتهم الدينية. وهكذا كانوا جميهاً جسداً واحداً ، الصهاينة وغيرهم.

خلال فترة قصيرة تقززت من الحوار بين اليهود الصهاينة واليهود غير الصهاينة لان الحوار بدا لي مبنياً على خداع كاذب لا يتلائم مع السمو الخلقي والطهارة التي يدعيها الشعب المختار لنفسه.

ثم لاحظت ايضاً الدور الذي يلعبونه في الحياة الثقافية: ولا ادري هل يوجد اي نوع من انواع الفساد الاخلاقي والثقافي بدون ان يكون احدهم وراءه. لاحظت دورهم في الصحافة، الفن، الادب ، المسرح. لم احتاج سوى لقراءة الاسماء وراء كل انتاج يسعى لهدم البنية الاخلاقية للمجتمع، وفي جميع الميادين. ان انتجت الطبيعة واحداً مثل جوثة، فهناك مقابله الاف من هؤلاء الذين يبثون السموم في ارواح الناس. وبدا كأن الطبيعة قد خلقت اليهود للقيام بمثل هذه الادوار.

تسعة اعشار القذرات في ميداني الادب والمسرح انتجها الشعب المختار، وهم لا يزيدون عن 1% من السكان. اما الصحافة الدولية التي احببتها يوماً فكان غالب كتابها منهم. ادركت الان ان اسلوبهم الموضوعي في الرد على مهاجميهم ، والتزامهم الصمت احياناً، ما كانا سوى خداعاً يهدف للسيطرة على الناس. لاحظت ان الاعمال المسرحية والادبية التي يمتدحونها هي التي يقدمها اليهود، اما الاعمال الادبية الالمانية، فانتقدوها دائماً بقسوة بالغة. ما اختبا وراء الوضوعية المصطنعة كان العداوة الشديدة لكل ما هو الماني.

ولكن ، لمصلحة من كان كل هذا؟

هل كان كله محض صدفة؟

بت غير واثق شيئاً فشيء.

ثم لاحظت الاخلاقيات اليهودية في الشارع. علاقتهم بالدعارة، بل وباستعباد البيض، كان واضحاً جداً في فيينا. وهكذا حين ادركت ان اليهودي هو ذلك المرابي البارد القلب، المنعدم الحياء، الذي يستثمر امواله في هذه التجارة الفاسدة التي تدمر المجتمع، ارتعشت اطراف جسدي.

بدات بمناقشة القضية اليهودية، وتعودت ان اراهم في مختلف فروع الحياة الثقافية. ولم استغرب حين عرفت ان زعيم الحزب الديمقراطي الذي تحدثت عنه اعلاه كان يهودياً.

وحتى في علاقاتي اليومية مع العمال، لاحظت قدراتهم المذهلة على تقبل اراء متعاكسة، متذبذبين بين اتجاه واخر احياناً خلال ساعات او ايام محدودة. لم استطع ان افهم كيف يمكن لاناس، حين تتحدث مع احدهم ، يبدو لك منطقياً واقعيا، ان يتحول فجاة تحت تاثير رفاقه لاراء معاكسة لكل منطق. احياناً شعرت بالياس التام المطبق. فبعد ساعات قضيتها في حوار مضني، شعرت بانني ساعدت في تحرير احدهم من هراء آمن به، وسعدت لنجاحي، ولكني سمعته يكرر ذات الهراء ثانية صباح اليوم التالي، وذهب جهدي هباء.

فهمت انهم ما كانوا قانعين باوضاعهم وبغضوا القدر الذي عاملهم بقسوة شديدة ، والرجال الذي بخسوهم الاجر وما فهموا معاناتهم، وانهم تظاهروا ضد ارتفاع الاسعار، كل هذا كان مفهوماً. ولكن ما لا افهمه كان كراهيتهم لجنسهم ووطنهم، واحتقارهم له، وتدميرهم لتاريخه. كان هذا الصراع ضد جنسهم وقبائلهم وبلادهم تدميراً للذات. وان امكن معالجتهم منه، فلساعات محدودة.

ثم لاحظت ان صحافة الديمقراطيين تحكم فيها اليهود: ومع ان ظروف العمل في هذه الصحف شابهت غيرها، الا انني لم اجد بينها واحدة يمكن اعتبارها حسب رؤيتي الخاصة، وطنية. كانت الصحافة التي يديرها اليهود شيوعية في العادة، واسعدني هذا. اذ عرفت ان الحزب الذي كنت اتصارع معه منذ شهور كان اجنبياً، فاليهود ما كانوا ابداً المانا.

عرفت الان من اغوى شعبنا لطريق الظلال.

عرفت ايضاً ان انقاذه ممكن.

اما اليهودي، فارائه الضالة لا تتغير ابداً.

فقد حاولت آنذاك مناقشتهم: تحدثت كثيراً واوضحت شرور الفكر الماركسي، ولكن بلا فائدة سوى ان يبح صوتي. واحياناً ،حين نجحت في اصابة احدهم بضربة فكرية مميتة، وشاهد جميع السامعين هذا، واضطر غريمك للموافقة، فانه سيعود صباح اليوم التالي لموافقه ذاتها، وكان أي تغيير لم يحدث.

وكان لكل هذا فائدة: فكلما فهمت اساليب اليهود وخداعهم بشكل افضل، زاد عطفي على العمال وادركت انهم ضحايا لهذه الاساليب واغوائها.

تراجعت عن الافكار الدولية وبت ناقماً على اليهود. وحين درست نشاطاتهم عبر القرون، تسائلت : هل كتب القدر لهم التوفيق والسيطرة على الاخرين، لاسباب لا نعرفها؟ هل يمكن ان يكون النصر حليفاً لامة ما عاشت الا للدنيا؟

تفكرت مرة اخرى في عقائد الماركسية ، وتعلمت اشياء جديدة: ان هذه العقيدة ترفض فكرة الصفوة الارستقراطية الموجودة في الطبيعة وتستبدل القوة الفكرية بالكثرة العددية. وهي لهذا السبب ترفض أي قيمة فردية، وتعارض الفكر القومي، وتسحب من الانسانية ثقافتها. انها فكرة كفيلة بتدمير أي حضارة، وان انتصر اليهودي بمعونة هذا الفكر، فان نصره سيكون الدمار النهائي للانسانية.



ولذلك اشعر انني اتصرف بمعاونة الخالق العظيم ومن اجل تحقيق اهدافه السامية لمصلحة البشرية حين ادافع عن نفسي ضد اليهودية واعلن الحرب عليها.

هذا الكتاب إهداء لكم
نسيم الجنوب غير متواجد حالياً