عرض مشاركة واحدة
قديم 02-10-2006, 09:30 PM
  #4
عاشق الجنوب
عضو
 الصورة الرمزية عاشق الجنوب
تاريخ التسجيل: Jul 2005
المشاركات: 56
عاشق الجنوب is on a distinguished road
افتراضي الجزء الثالث

-

عندما وصلت إلى الزنزانة قرأت البطاقة الموجودة في الأمام وعرفت أن اسم المعتقل هو حبيب، كان شعره أقصر من شعر معظم المعتقلين الآخرين، لكنه أسود مثل البقية وعيناه سوداوان، وكان يجلس بالطريقة الهندية على الأرض. قلت له: "السلام عليكم"، أجاب: "وعليكم السلام"، كانت تلك إشارة طيبة تعني أنه لن يكون مشاكسا. سألته عما يريد، قال إن المحقق في الليلة السابقة وعده بنقله إلى زنزانة أخرى. ولكن عندما جاءت نوبة الحراس الصباحيين، لم ينقلوه وكان يريد أن يعرف السبب.
طلبت منه الانتظار "وكأنه كان سيذهب إلى أي مكان" بينما أسأل الحراس عن الأمر، قال لي الضابط المسؤول إنه لا يوجد في ملاحظاته شيء عن نقل حبيب. فكرت في أن حبيب قد يكون كاذبا، أو أن المحقق وعده فعلا لكنه نسي إخبار الحراس بذلك، أو ربما نسي الحراس في نوبة الليل إخبار نوبة الصباح. وقال مسؤول النوبة: "في جميع الأحوال، لن يتم نقله ما لم أسمع ذلك من المحقق المسؤول عنه أو من رؤسائي".
توجهت عائدا إلى الزنزانة 36 وقلت له: "أتمنى لو أنني أستطيع مساعدتك يا حبيب، ولكن اليوم ليس يوم سعدك، يقول الحراس إنهم لا يعرفون شيئا حول نقلك، عليك أن تتحدث إلى المحقق"، لكنه صرخ قائلا: "لكنني لن أرى تلك اللعينة حتى الأسبوع المقبل، هي تعرف أنني بريء، إنني أقول لها كل ما أعرفه، علي أن أحصل على جائزتي، إنني عالق هنا مع كل هؤلاء الأغبياء الأفغان".
إما عن طريق المصادفة أو تخطيط المحقق، كان حبيب وهو يمني عربي، محاطا بمعتقلين من غير العرب البشتون أو الأفغان، كان أقرب عربي يبعد عنه 6 زنزانات وقال حبيب عنه: "إنه من القاعدة، ولا أريد أن أتحدث إليه وأجعل أي شخص يعتقد أنني واحد منهم"، لم يكن بإمكاني أن أعرف إذا كان يقول الحقيقة، لكنني كررت أنني لا أستطيع مساعدته.
صرخ مرة أخرى: "أنت لا تفهم، إنني لا أستطيع أن أبقى في هذه الزنزانة، إنني أكاد أجن، هؤلاء الحمقى حولي يدفعونني إلى الجنون، عليك أن تساعدني"، كنت قد بدأت أحس بالضيق منه فقلت له: "حبيب، حتى لو أردت مساعدتك، لا أستطيع"، صرخ حبيب: "حمار"، التفت إليه وسألته: "ماذا قلت؟"، أجاب: "لو كانت الفتاة الشقراء مكانك لساعدتني"، صرخت في وجهه بغضب: "استمع إلي، عليك أن تستيقظ بسرعة، سواء كان ظلما أو عدلا، فأنت لست في فندق، أنت معتقل في سجن أمريكي"، بدا أن الحراس كانوا سعداء بسماعهم قولي أنه ليس في فندق.
صرخ حبيب فيما كنت أسير مبتعدا: "أرسل الفتاة الشقراء"، تجاهلت ذلك، وتجاهلت صيحات المعتقلين الآخرين طلبا لخدماتي، لكنني شرحت للحارس مشكلة حبيب فقال لي إنه سيكتب ذلك في دفتر الملاحظات.
كانت تلك مشكلة أخرى ضمن مشكلات المعتقلين العادية، وانتهت بنفس الطريقة، هم عادة يريدون شيئا - كتب، تغيير زنزانة، تغيير الطعام، معرفة ما إذا كانوا سيلتقون مع محام - وكانوا يحاولون إطالة المحادثة أو ينقلبون إلى عدائيين عندما نقول لهم إننا لا نستطيع مساعدتهم.
كانت الحياة مملة للمعتقلين في أفضل الأحوال، طبعا ما عدا الوقت الذي يقضونه في التحقيق، مع أنهم يشعرون بالحيوية أحيانا، إلا أنهم معظم الوقت يجلسون على أسرتهم أو على الأرض ويقرؤون أو يحدقون في الفراغ وعلى وجوههم تعابير فارغة، كانت أفضل ساعات اليوم لديهم هي الفترة التي يحصلون فيها على وجبتين من الطعام الحلال الساخن، كانت لديهم عدة فترات للاستحمام والتريض خلال الأسبوع، وكان عدد هذه المرات يعتمد على التصنيف الذي وضعهم محققوهم فيه، واحد، اثنان، أو ثلاثة، كان المستوى الثالث للمعتقلين الذين وصلوا حديثا أو الذين لا يتعاونون مع محققيهم، كان يسمح لهم بالأساسيات فقط - بطانية، سجادة صلاة، قبعة، قرآن، فرشاة أسنان - المستوى الثاني كان للذين يتعاونون بشكل متوسط، كان يتضمن السماح بأشياء إضافية بسيطة مثل كأس للشرب، وكمية أكبر من الكتب، أما المستوى الأول فكان لأفضل مواطني جوانتانامو كانوا يحصلون على كل ما يحصل عليه الآخرون بالإضافة إلى ساحة لممارسة الرياضة ووقت للاستحمام، والمجلات وحتى بعض الألعاب التي يمكنهم أن يلعبوها مع المعتقلين المجاورين من خلال الحاجز الشبكي، حتى تلك الأمور الصغيرة كانت تعني لهم الكثير.
كان يسمح للمعتقلين بركل كرة القدم في ساحة الرياضة، ولكن كان يسمح لمعتقل واحد فقط بالخروج إلى الساحة في كل مرة، وفي الجو الحار الخانق في جوانتانامو، كانت مجمعات الزنزانات التي لا تحوي مكيفات حارة إلى درجة لا تطاق، كان هناك نظام لتنقية الهواء على كل مجمع زنزانات ومن المفترض تشغيلها عندما ترتفع درجة الحرارة، لكن ذلك لم يكن يحدث في الغالب.
بعد مرور عدة أيام على وجودي في جيتمو، أصبح بإمكاني أن أعرف عندما يكون معتقل ما قد عاد من تحقيق صعب، كان يبدو عليهم غالبا ملامح الهزيمة، رؤوسهم منخفضة وعيونهم لا حياة، كان الأمر أحيانا أكثر وضوحا، كانوا يجلسون وهم ملتفون على أنفسهم على شكل الجنين في زاوية الزنزانة، ويحدقون في الفراغ أو يبكون بصمت، وكانوا أحيانا يعودون ويتباهون بصوت عال كيف أنهم لم يقولوا شيئا للمحققين وكيف خدعوهم، كان معظم اللغويين يعتقدون أن تلك المباهاة كانت طريقة لتعويض ما فعلوه وأن أولئك المعتقلين كانوا في الواقع يعترفون بما يعرفونه، كان من الواضح أن بعض المعتقلين كانوا تحت ضغط نفسي كبير.
في صباح هادئ، بعد أن كنت انتهيت من تناول إفطاري، دخلت ضابطة شابة من سلاح الجو ذات عينين خضراوين وشعر بني قصير إلى مكتبنا وقالت: "من هو ضحيتي اليوم؟".
حيث إنني كنت الأحدث في الفريق، وكان مو منهمكا في قراءة إحدى المجلات، قال لي: "إريك، لماذا لا ترافقها إلى المعتقلين اليوم؟"، سألت متعجبا: "إلى أي نوع من المشاكل ترسلونني يا شباب؟"، اتضح أن جيسيكا، وهو اسمها، كانت اختصاصية نفسية في المعسكر.
قالت فانسيا: "دورها النبيل هو أن تحاول ضمان أن أقل عدد ممكن من المعتقلين يحاولون الانتحار في اليوم الواحد"، كانت قد سمعت أنه كانت هناك الكثير من حالات محاولة الانتحار بين المعتقلين، ربما محاولة كل أسبوع، وكان يتم استدعاء لغوي عادة إلى مكان الحادث، لحسن الحظ، لم أكن قد استدعيت إلى إحدى هذه الحالات بعد، التقطت قبعتي ونظارتي الشمسية وتبعت جيسيكا.
كان أول معتقل تحدثنا إليه اسمه سعيد، عندما اقتربنا من زنزانته كان يجلس في الزاوية الأمامية، وهو ينظر حوله باستغراب ويراقب كل شيء حوله، قالت جيسيكا: "صباح الخير سعيد"، وطبعا كنت أقوم بالترجمة. سألته جيسيكا: "كيف نومك؟" أجاب دون حتى أن ينظر إلينا: "لا بأس"، سألته جيسيكا: "كيف طعامك؟" أجاب: "لا بأس"، سألته جيسيكا: "هل تراودك كوابيس؟"، أجاب: "لا"، سألت جيسيكا: "هل تشعر باليأس؟"، قال: "لا"، سألته جيسيكا: "هل تفكر في إيذاء نفسك أو غيرك؟"، أجاب: "لا".
بذلك انتهينا من سعيد، وانتقلنا إلى معتقل آخر، تمت إعادة نفس الأسئلة والأجوبة مرات ومرات وأنا أتبع جيسيكا في مجمع الزنزانات كانت تكتب ملاحظات حول كل معتقل في دفتر ملاحظاتها الأخضر، ولدى اقترابنا من أحد المعتقلين، بدأ بتلاوة القرآن دون أن يرفع رأسه عن القرآن، قال دون أن ينتظر أسئلة جيسيكا: "إنني أنام جيدا، وآكل جيدا، ولا أتعرض لكوابيس، ولا أريد أن أؤذي أحدا، بما في ذلك نفسي، هذا المكان جنة".
بدا لي أن سؤال هؤلاء الأشخاص إذا كانوا يحسون باليأس كان أمرا سخيفا بسبب وضعهم الذي هم فيه، ذلك تماما ما كان المحققون يريدونهم أن يحسوا به، كان من السخافة أن يحاول الفريق النفسي التقليل من الخسائر عن كل ما كان المحققون يفعلونه، واكتشفت أن هناك في الواقع بعض المعتقلين الذين لا يراهم الاختصاصيون النفسيون لأن المحققين كانوا يريدون هؤلاء المعتقلين أن يحسوا بالاكتئاب والوهن.
قالت لي جيسيكا إن بعض المعتقلين كانوا يدعون أنهم يرون أرواحا شريرة، يسمونها الجن، وتم وصف أدوية لهم، كان المعتقلون يتحدثون إلى الجن الذين كانوا يسخرون منهم، لكنهم لم يكونوا يتحدثون عن ذلك، الأمر بصراحة مع الاختصاصيين النفسيين كانوا يريدون التحدث فقط مع المستشار الديني الكابتن جيمس بي، وهو مسلم كان يقدم الاستشارة الدينية لقيادة المعسكر حول قضايا المعتقلين، كان المعتقلون يعتقدون أن تلك الأرواح كانت رسائل دينية وأنها حقيقية جدا، كان معظم المعتقلين يؤمنون بها.
كان هناك ثلاثة أمور تساعد المعتقلين على التغلب على ضجر الزنزانات وتوتر ساعات التحقيق الطويلة، إيمانهم، وإخوانهم مع أنهم لم يكونوا جميعهم على وفاق، وأي محادثة أو فوضى أو مشاحنات كانوا يتمكنون من خلقها مع سجانيهم، كان الإسلام مصدر قوتهم الأساسية، ويجب أن أعترف أنه في هذه الظروف، كانت تقواهم مثيرة للإعجاب، لكن الطبيعة المتطرفة لمعتقداتهم وفكرة أننا كنا ربما نقوي هذه المعتقدات بسبب ممارساتنا كان مثيرا للقلق، كان مو قد قال لي إن عددا من الكتب في مكتبة المعسكر - وهي الأكثر رواجا بين المعتقلين - كانت أصولية في طروحاتها، إذ لم يكن المعتقلون متطرفين عندما دخلوا، كانت هناك فرصة جيدة بأنهم سيكونون كذلك عندما يغادرون - إذا غادروا.
كان معظمهم يريدون الشهادة، وجميعهم تقريبا كانوا يصلون خمس مرات في اليوم، وكانوا يصومون رمضان على الأقل، وأحيانا أكثر، وقد حفظوا أجزاء من القرآن بعضهم كان قد حفظ القرآن كله.
داخل كل مجمع للزنزانات كان بعض المعتقلين يأخذون أدوارا خاصة، كان هناك عادة شخصان أو ثلاثة يحترمهم باقي المعتقلين لأنهم كانوا أساتذة دين محبوبين، هؤلاء الأساتذة كانوا يأخذون دور زعامة المعتقلين في مجمع الزنزانات، كان أحد المعتقلين متهما بأنه متعامل مع القاعدة، وأن مهمته كانت الاتصالات عبر الإنترنت، كان شابا لكنه كان يحفظ القرآن كاملا وكان أستاذا محبوبا، كان المعتقلون ينقلون من مجمع زنزانات إلى آخر كل الوقت، ويتم إعادة خلطهم وترتيبهم، ولكن لا يهم إلى أين كان هذا الشخص ينقل، كان يكتسب احتراما مباشرا، خلال أيام كان يعطي محاضرات عن القرآن بعد الظهر لكامل المجمع، وعندما كان يتحدث كان يمكنك سماع صوت الإبرة إذا سقطت.
كان معتقلون آخرون يلعبون دور المشجعين، إذا عرف أحد المشجعين أن معتقلا كان يتعرض لاستجواب مكثف، كان يحثه على مقاومة الإغراءات ومحاربة الكفار، كنت أسمع مثلا معتقلا يلعب هذا الدور يصيح: "يجب أن تبقى قويا يا أخي، وسيأتي جزاؤك فيما بعد" وكان يقتبس آيات من القرآن، وكان هناك معتقلون يلعبون دور الارتباط مع حراس الشرطة العسكرية، وهي مهمة لا يحسدون عليها بسبب "السعادة" العامة التي كان عناصر الشرطة العسكرية يستمعون فيها إلى شكاوى المعتقلين، هؤلاء المعتقلون كانوا يتنافسون على الزعامة.
كان اعتماد المعتقلين على بعضهم البعض يشكل عقبة فعالة بالنسبة للمحققين، عندما كنت في الزنزانات كنت أسمع معتقلين يتحدثون بغرور عن غباء محققيهم، أو أن يقول أحدهم مازحا: "إنني أتحدث إليهم فقط حتى لا أضطر لأكون هنا معكم أيها الأغبياء"، لكن العلاقة بين المعتقلين والمحققين كانت أكثر تعقيدا من ذلك، خلال الأيام الأولى من وجودي في المعسكر، سمعت معتقلا يقول إنه واقع في غرام التي تقوم بالتحقيق معه، وبدا أنه صادق لدرجة أنه كان من المستحيل معرفة إذا كان يتحدث عن ذلك بسخرية، سمعت أيضا معتقلا يشتكي من أن المحققة كانت تحاول "استغلالي روحيا"، في ذلك الوقت، لم أفهم تماما ماذا كان يعني بذلك.
كانت هناك أمور قليلة ذات أهمية كبيرة أو تسببت بإثارة الغضب الكبير داخل مجمعات الزنزانات وبين عناصر المعسكر مثل قضية التعامل مع القرآن، كان كل معتقل يحصل على نسخة من القرآن إذا أرادها، وجميعهم كانوا يتعاملون مع القرآن باحترام، كانت دراسة القرآن الذي كان يغطى بقماش أبيض تستغرق معظم ساعات اليوم، أي تعامل مسيء للكتب المقدسة لم يكن مجرد إهانة شخصية لكنه كان إساءة للإسلام نفسه.
كانت المشكلة هي أن المعتقلين كانوا يمانعون بشدة أن يمسك غير المسلمين القرآن، هذا كان يسبب ورطة كبيرة، لأن الحراس كان عليهم أن يفتشوا الزنزانات بانتظام لأسباب أمنية، وكان هناك قرآن في كل زنزانة تقريبا، كان الكابتن بي قد أقنع قيادة المعسكر بإرضاء المعتقلين في هذه النقطة، عندما كان أحد عناصر الشرطة العسكرية يحتاج إلى تفتيش القرآن، كان على جندي مسلم أن يأتي ليفعل ذلك، وذلك كان يعني عادة أحد اللغويين، عندما كان عناصر الشرطة العسكرية يتصلون بنا طالبين مترجما مسلما، كنا نعرف أن المشكلة كانت تتعلق بالقرآن.
ولكن لأن تلك السياسة لم تكن مكتوبة، كانت غامضة ومبهمة، وكان عناصر الاستخبارات يتجادلون حولها، وكذلك عناصر الشرطة العسكرية، الذين كانوا يشعرون أن ذلك يقلل من سلطتهم، لذلك كان بعض عناصر الشرطة العسكرية يفتشون القرآن بأنفسهم، وذلك كان يدفع المعتقلين إلى ما يشبه أعمال الشغب، بما في ذلك البصاق على الحارس وصيحات عالية: "الله أكبر"، كانت هذه الاضطرابات طريقتهم في قتال مضطهديهم - وأحيانا مصدرا للتسلية الصرفة، قدرتهم على خلق التوتر في المعسكر كانت فائقة -، وكانوا يعرفون ذلك.
الكراهية الكبيرة للأمريكيين داخل مجمعات الزنزانات كانت رابطا آخر يجمع المعتقلين، لم يكن الجميع يحسون بتلك الكراهية ضدنا، لكننا كنا على حذر، ومع أن بعض المعتقلين كانوا ينفجرون على اللغويين، إلا أنهم كانوا بمعظم سخريتهم للشرطة العسكرية الذين كانوا يتجولون في مجمعات الزنزانات، ومن المفترض أنهم ينظرون إلى معتقل كل ثلاثين ثانية، كان المعتقلون يبصقون عليهم، ويرشون عليهم المياه، والبول، أو حتى البراز، وكانوا يشتمونهم بعبارات مثل "ابن العاهرة"، وغيرها، كان معظم عناصر الشرطة العسكرية من الاحتياطيين، وكنت أتساءل إلى أي حد كانوا مهيئين لمثل هذه المهمة.
وفي نفس الوقت، كانت العقوبة الوحيدة التي يفترض أن يطبقها الحراس هي مصادرة إحدى أدوات الرفاهية مثل بطانية إضافية، أو وضع المعتقل المسيء في الحبس الانفرادي، وكانت الزنزانات الانفرادية ذات جدران معدنية صماء، حتى لا يتمكن المعتقل من الرؤية خارجها، لكنها كانت مكيفة، وبعض المعتقلين كان يعتبر الذهاب إلى الانفرادي على أنه وقت هادئ لقراءة القرآن والتأمل، سمعت مرة معتقلا يقول: "ربما سأرمي شيئا على الحارس اليوم، حتى أتمكن من قضاء بعض الوقت في الزنزانات الأخرى".
كان عناصر الشرطة العسكرية متضايقين من السيطرة القليلة التي كانوا يتمتعون بها على المعتقلين، كان ذلك في يد المحققين مع أنه مع مرور الوقت، وجد عناصر الشرطة العسكرية طريقتهم الخاصة في تأكيد سلطتهم إذا لم يكن المحقق يريد أن تتم معاقبة سجين ما، فلا يمكن حدوث ذلك، كانت الاستخبارات تنظر إلى المعتقلين على أنهم مصادر معلومات محتملة. والذين يمكن لمعلومة صغيرة يتم الحصول عليها من أحدهم أن تساعد في حل لغز ما، كان عناصر الشرطة العسكرية يعتقدون أن المعتقلين لا يتلقون المعاملة التي يستحقونها، كانوا إرهابيين مسؤولين عن هجمات 11 سبتمبر، ويجب أن تكون حياتهم بائسة، عندما قلت لحارس في أحد الأيام خلال الأسبوعين الأولين لوجودي إن أحد المعتقلين ادعى أن المحقق كان قد وعده ببطانية إضافية، رد علي عنصر الشرطة العسكرية باحتقار: "لا يهمني مطلقا ما يقوله بعض المحققين، إنهم هم الذين يسببون فشل هذه المهمة".
كان الحراس يملكون سلاحا في جعبتهم، إذا كان أحد المعتقلين يرفض أمرا فإنهم يستطيعون أن يستدعوا مجموعة من خمسة عناصر من الشرطة العسكرية - كانوا يطلقون عليهم مجموعة قوة الرد الأولي - وكانوا يجبرون المعتقل على إطاعة الأمر باستخدام القوة المطلقة.
كان عناصر الشرطة العسكرية يتصرفون بأحسن صورة إذا كانت لجنة من الصليب الأحمر الدولي تقوم بإحدى زياراتها للمعسكر، لم يكن مسموحا لهم ولا للغويين بالتحدث مع ممثلي الصليب الأحمر، إلا في حالة الضرورة القصوى، كانت قيادة المعسكر حذرة جدا منهم، وكانوا يقولون لنا أن نكون حذرين فيما نقوله عندما نمر بقرب القاطرة التي يجلس فيها ممثلو المنظمة، والتي كانت موجودة خارج سور المعسكر عندما كان أحد موظفي الصليب الأحمر يلتقي مع معتقل في أحد مجمعات الزنزانات كانوا يغادرون عندما يرون أحدنا قادماً، كانوا يعتبرون حديثهم مع المعتقلين حديثا سريا، ومقابل السماح لهم بزيارة المعسكر لم يكن يسمح للمنظمة بالتحدث علنا عما رأوه في المعسكر، إذا كان لديهم أي شكاوى حول وضع أو معاملة المعتقلين، كانوا ينقلونها مباشرة إلى الحكومة. وإذا كان عناصر الشرطة العسكرية يتصرفون بلباقة أمام لجنة الصليب الأحمر، فإنهم بالتأكيد لم يشعروا مطلقا أن يفعلوا ذلك أمامنا، كانت علاقة الحراس بالمحققين متوترة كثيرا، وكانوا يحتفظون باحتقار خاص لنا نحن اللغويين، لم يكونوا يثقون بنا لأننا كنا الوحيدين الذين نفهم ما يقوله المعتقلون، وكانوا يعتقدون أننا نتعاطف معهم، وكان حتى إظهار أي نوع من المشاعر أو العطف على المعتقلين أو الحديث معهم لفترة طويلة، نسبيا يعتبر تعاطفا، وإذا صنفك أحد الحراس على أنك متعاطف، فلا تمضي أيام قليلة حتى تجدهم جميعا يراقبونك عندما تذهب إلى الزنزانات. كان بعض الحراس يعتقد أنه يجب مراقبتنا في حال حاولنا تمرير أي شيء إلى، أو أخذ أي شيء من المعتقلين، كانوا يعتقدون أن علينا أن ندخل ونخرج من مجمعات الزنزانات بسرعة، وألا نتحدث كثيرا، عندما رآني أحد الحراس أضحك على نكتة قالها أحد المعتقلين حدق بي غاضبا وقال: "ماذا بك يا (شتيمة)، هل أنت أحد محبي المعتقلين؟".
قالت فانسيا إنها كانت أحيانا تشتكي إلى أحد الضباط المسؤولين عن رعاية الأعمال اليومية في وحدات الشرطة العسكرية حول عدم اهتمام الحراس بمشاكل المعتقلين الصحية، لكنهم لم يكونوا يريدون الاستماع إليها، في إحدى المرات روت حكاية معتقل في مجمع زنزانات سبيرا اشتكى عدة مرات من ألم في ظهره في كل مرة كان يراها فيها، وطلب أن يرى طبيبا، وفي كل مرة كانت تنقل ذلك إلى الشرطة العسكرية المسؤولة عن المجمع، كان من المفترض أن يقوموا بكتابة طلب الطبيب في تقريرهم اليومي.
بعد ثلاثة أسابيع سألت الضابط المسؤول لماذا لم يتم عرض المعتقل على طبيب بعد، فأجابها: إن سلامة المعتقلين ليست من شأنها، فأجابت أن ذلك قد يكون من شأن بعض رؤسائه، وأضافت: "أريد أن أعرف إذا كانت هذه الشكاوى قد سجلت في التقرير أصلا"، أجاب غاضبا: "اسمعي أيتها العاهرة، إنني أدير مجمع الزنزانات هذا بالصورة التي أراها مناسبة، إذا كنت أعتقد أن المعتقل يشتكي من ألم في ظهره فقط ليحصل على فرصة ليمشي فيها عبر المعسكر إلى العيادة الطبية في ظهيرة مشمسة فلن أكتب ذلك في تقريري، والآن غادري مجمعي وفي المرة القادمة لا تتخطي حدودك".
بالطبع، كما كانت فانسيا قد قالت، فإن قيادة الحراس كانت تذكرهم دائما أن ينظروا إلى المعتقلين باحتقار كامل. كنت أسمع أحيانا وأنا عائد إلى المعسكر التعليمات التي يعطيها لهم قائدهم، وهو كولونيل شديد جدا، وكان يقول لهم: "تذكروا دائما، أنتم أيها الشباب يجب أن تشعروا بالفخر لتكونوا هنا تحرسون هذه الحثالة، هؤلاء الرجال هم أسوأ الأسوأ، هذا المكان مخصص للإرهابيين الذين إما ساعدوا في التخطيط لهجمات 11 سبتمبر، أو أنهم كانوا يخططون لهجمات مستقبلية ضدنا عندما تم إلقاء القبض عليهم".
ومع أن معظم عناصر الشرطة العسكرية كانوا يعتقدون أننا متعاطفون مع المعتقلين، فإن علاقتنا معهم كانت أكثر تشابكا، كان المعتقلون يعتبرون اللغويين مصدر أملهم الأساسي، كنا همزة الوصل بينهم وبين العالم الخارجي، والوسيلة التي يفهمون من خلالها ما يجري حولهم، والوسيلة لإيصال أصواتهم. كانت علاقة مميزة لم يفهمها الحراس والمحققون جيدا، وكان المعتقلون يفعلون ما بوسعهم للاعتماد علينا واستعطافنا والتواصل معنا، كان علينا أن نكون حذرين، وكان بإمكانهم أن يخبرونا بأشياء مجنونة.
كانت محاولات المعتقلين للتواصل غالبا بريئة كانوا يحبون التحدث إلى الجنود الأمريكيين، ولكنهم أحيانا كانوا يحاولون استغلال الموقف، كانوا يريدون من اللغويين أن يكونوا متعاطفين وأن يعرفوا وضعهم العائلي، وأن يصدقوا أنهم فعلا كانوا يحبون الولايات المتحدة، كانوا يأملون في إيجاد حليف من الداخل، إذا لم نعرف الفرق أحيانا، كانوا نادرا ما يشعرون بمدى ضعفنا، كان بإمكاننا أحيانا أن نحل سوء التفاهم، لكن لم يكن بإمكاننا لعب دور حلال المشاكل، كان شعار المعسكر: "دعهم يقولوا كل شيء للمحققين، هناك يجب أن يضعوا كل آمالهم، لا تتصرفوا وكأن بإمكان أي شخص آخر مساعدتهم".
ففي اليوم الذي يسبق عيد الميلاد في الساعة 9:30 صباحا، وجدت نفسي أمام باب زنزانة لمعتقل سعودي يجلس على حافة سريره الفولاذي في مجمع زنزانات سبيرا، كان يبدو عليه الحزن العميق، قال لي وائل: "لقد أردت فقط شخصا أتحدث إليه، أحتاج إلى مساعدتك"، قلت له: "لست متأكدا أنني أستطيع مساعدتك، لكنني سأستمع إليك، ما الأمر؟"، قال وائل: "مكاني ليس هنا، أنا..."، قاطعته مباشرة قائلا: "اسمع، ليس هناك ما أستطيع عمله بهذا الشأن، مهما كانت المعلومات التي لديك حول ما حدث لك قبل أن تأتي إلى هنا يجب أن تناقشها مع المحقق"، كانت تلك هي العبارة التي تتماشى مع التعليمات والتي كنت أستخدمها مع كل المعتقلين الذين كانوا يعتقدون أن بإمكاني أن أقدم لهم مساعدة تفوق دواء للصداع.
امتلأت عينا وائل بالدموع، ولم أعرف إذا كان علي أن أغضب منه أو أشفق عليه، كان الجو حارا مثل جهنم، كان هناك شيء حول هذا الشاب منعني من الانصراف، كان وائل يحدق بي، كنت أعرف أن علي أن أعود إلى المكتب، لكنني وقفت ونظرت إلى هذا الرجل لثوان أحسستها طويلة جدا، قال لي أخيرا: "إذا قبلت أنك لا تستطيع أن تساعدني، هل تبقى وتستمع إلى قصتي؟"، بعد لحظة من الصراع الداخلي، خلعت نظارتي الشمسية ونظرت إلى وائل وقلت: "سأستمع إذا كنت تفهم تماما أنني لا أستطيع أن أفعل شيئا"، قال وائل: "أفهم ذلك، ألف شكر"، قلت: "عفوا، إنني أصغي إليك"، قال بنعومة ولكن بحرارة: "إنني أريد فقط أن يفهم أحد ما، مضى على وجودي هنا سنة كاملة والمحقق يعرف قصتي ولم يتحدث إلي منذ 4 أشهر، في الواقع ربما تحدثت إليه 5 مرات فقط، لقد تم تسليمي إلى الأمريكيين في أفغانستان لكنني سعودي"، سألته: "ماذا كنت تفعل في أفغانستان؟"، أجاب: "سؤال جيد، أعرف أن السلطات الأمريكية تعتقد أن كل عربي في أفغانستان كان يتدرب ليصبح إرهابيا، لكن هذا غير صحيح، كان هناك العديد من العرب هناك الذين لا علاقة لهم بالإرهاب، وهل تعرف كيف انتهى بهم الأمر هنا؟"، قلت له: "لا، لا أعرف يا وائل، أفترض أنك إما قبض عليك في ساحة المعركة أو كان لك علاقة بأحد معسكرات تدريب القاعدة"، أجاب وائل: "لا، لا، لا، هذا غير صحيح، إذا كانوا يقولون لكم ذلك فهذه كذبة، هل يصدق كل الجنود هنا ذلك؟"، قلت: "لماذا لا تقول لي فقط كيف وصلت إلى هنا يا وائل، لماذا غادرت السعودية؟"، بدأ وائل يروي قصته، قال إن والده أستاذ جامعي في الرياض، هو أيضا كان يحمل شهادة جامعية، لكنه لم يستطع الحصول على عمل بعد تخرجه، ذهب في نهاية التسعينيات إلى أفغانستان ليعمل في دار أيتام، التقى هناك مع امرأة، وتزوجها وأنجب ثلاثة أطفال - صبيين وبنتاً - بعد ذلك ترك دار الأيتام وعمل في مزرعة، "كانت حياتي سعيدة، لم أكن أحب طالبان، لكنهم لم يزعجوني، ولم أكن أزعج أحدا، لم أكن قد سمعت عن القاعدة قبل حضوري إلى هنا".
كنت أشك في أقواله، لكنني سألته كيف وصل إلى جيتمو، قال: "كنت أعيش في قرية خارج قندهار عندما رأينا طائرات أمريكية كبيرة تطير في المنطقة، لم نكن نعرف ما يحدث ولا لماذا كان الأمريكيون قادمين، بعد أيام دخلت قوات تحالف الشمال وقبضوا على كل عربي في المنطقة بالإضافة إلى بعض الأفغان الشباب، أخذونا إلى سجنهم لبضعة أيام، وسجنهم يجعل جوانتانامو يبدو وكأنه قصر، وتابع وائل: "عذبونا لمدة ثلاثة أيام، رأيتهم يعتدون على أحد الرجال جنسيا، رجل آخر تعرض للضرب حتى كاد يموت، لم يعطونا إلا قليلا جدا من الماء والطعام، أخيرا سلمونا إلى الأمريكيين وأرسلونا إلى قاعدة باجرام، حقق معي بعض الأمريكيين الذين كانوا لا يتحدثون العربية بشكل جيد أبدا، قلت لهم جميعا إنني لم أكن إرهابيا لكنهم استمروا في سؤالي عن أشياء مثل أين البيوت الآمنة؟ الآن، أسمع إشاعات أن السلطات الأمريكية كانت تدفع لقوات تحالف الشمال مكافأة مالية عن كل عربي يسلمونه لهم، هل هذا صحيح؟".
فيما كنت أستمع إلى وائل لم أتمالك نفسي من التساؤل عما إذا كان هذا الشاب يكذب أم يقول الحقيقة، قلت له: "وائل، أعرف أنك أردت أن تخبرني قصتك، لكنني فعلا لا أستطيع أن أفعل شيئا"، قال لي: "إنني أفتقد أولادي، ليس لديهم أي فكرة عن مكان وجود والدهم، كيف أشرح لهم هذا؟"، قلت: "ماذا تريدني أن أقول يا وائل؟"، قال: "أردتك فقط أن تعرف، أريد أي شخص مستعد للاستماع أن يعرف، أعرف أنك لا تستطيع مساعدتي، أريدك فقط أن تعرف، لا تصدق كل الأكاذيب التي يقولونها لكم، ليس كل المعتقلين هنا إرهابيين، فقط اسأل بعض الرجال الذين لم يروا المحققين منذ أشهر".
كنت قد لاحظت أن بعض المعتقلين لم يكونوا يذهبون إلى التحقيق أبدا، وكنت أتساءل عن السبب، كنا قد سمعنا نحن المترجمين قصصا مشابهة لمعتقلين قبضت عليهم قوات تحالف الشمال المناوئة لطالبان. وقالت تقارير صحفية إن الولايات المتحدة كانت تدفع جوائز لكل من يسلم مشبوها بالإرهاب، وقد ألمح مسؤولون أمريكيون إلى أن ذلك كان يحدث بالفعل، كان ذلك مثيرا للقلق، جميعنا نعرف أشخاصا مستعدين لتسليم جداتهم، إذا دفع لهم مبلغ ما من المال، وكانت خمسة آلاف دولار تعني الكثير في مكان مثل أفغانستان.
شعرت بأن الوقت قد حان لإنهاء محادثتي مع وائل، قلت له: "وائل، علي أن أذهب، اعتن بنفسك"، وضعت نظارتي الشمسية على عيني واستدرت مبتعدا عن الزنزانة عندما صاح وائل: "يا بسام (الاسم الذي كنت معروفا به عند السجناء)". نظرت إلى وائل مرة أخرى وكانت عيناه مليئتين بالدموع، قال لي: "بارك الله فيك"، قلت: "وبارك الله فيك يا وائل
__________________



أدعم المظلوم حميدان التركي

http://www.homaidanalturki.com/
عاشق الجنوب غير متواجد حالياً